لا إحصائية بعدد المتشردين وأعدادهم في تزايد
المنظمات والجمعيات لا توليهم أي اهتمام وتتاجر بقضاياهم

#عمر_القاضي / #لا_ميديا -
مع موعد أذان المغرب ستشاهد عشرات المتشردين يتوافدون إلى حديقة صغيرة تابعة لميدان التحرير في العاصمة صنعاء. حوالي عشرين متشرداً يعودون يومياً للنوم هناك على أرضية الحديقة وعلى كراسٍ اسمنتية وأخرى من البلاط وتحت الأشجار وبمحاذاة الجدران الباردة.
يفترشون كراتين وفرشاً خفيفة ومتسخة أيضاً. يتغطون ببطانيات رقيقة أو بلحافات وشوالات... جميعها متسخة وبالية ولا تفي بالغرض.

زيارة ليلية
في إحدى الليالي مؤخراً زرت حديقة ميدان التحرير، فوجدتهم منتشرين بين «شارع المطاعم» والحديقة وداخل النفق الذي يربط الميدان بـ»باب السباح». 
كانت ليلة باردة جدا، برودتها تقتحم بطانيات المتشردين ولحافاتهم البالية والمهترئة.
قطعت الحديقة الصغيرة أمشي بخطى بطيئة وأنا أشاهد المتشردين منتشرين في أنحاء الحديقة الباردة على الأرض وفوق كراسيها الإسمنتية الباردة وجوار الأشجار، حتى الطرف الآخر للحديقة باتجاه الشارع المحاذي لمكتب البريد. 

عودة
لم أكتفِ بذلك، وعدت مجدداً. جلست هناك لدقائق على أحد كراسي الحديقة أفتش هاتفي متلصصاً على المتشردين المبثوثين في أرجاء المكان.
على بعد 3 أمتار من مكاني كان ثمة متشرد ممدد على أحد الكراسي الإسمنتية الباردة. من الواضح أنه كان يغطي جسده بقطعة ما، لم أتبين ما إن كانت بطانية أم لحافاً أم غيره، فالظلام كان مخيماً على أجزاء كبيرة من الحديقة، ولا يصلها سوى بصيص ضوء خافت من إنارة الشارع المحاذي.
للوهلة الأولى بدا لي ذلك المتشرد أشبه بجلمود أسود، غير أنه كان يتحرك ويسعل سعالاً حادا بين الفينة والأخرى. سعاله الحاد والمتواصل يوحي بأنه ربما مصاب بمرض صدري هيجه الصقيع حد التقيؤ.
عرفت أنه ما يزل مستيقظاً، فقد بدت تحركاته بمثابة تعبير عن انزعاجه واحتجاجه على الصقيع الذي لا يرحم أحداً في حديقة جميع اتجاهاتها مكشوفة. 
مكثت دقائق أستمع لسعاله الحاد والذي لا يكاد ينقطع. في الجهة المقابلة كان ثمة متشرد آخر يدخن سيجارة لتدفئة جسده. كان بين كل نفثة دخان وأخرى يهمهم بصوت مبحوح، لم أفهم منه غير كلمتين: «هو» و»هم».
انتقلت بخطى بطيئة إلى مكان آخر في الحديقة لأجلس جوار متشرد آخر كان متكئاً وما يزال «مخزن» على أحد الكراسي. لم أستطع أن أتبين ملامحه ولا شكله جيدا، فقد كان الضوء الواصل إلى وسط الحديقة خافتاً وغير كافٍ.
اكتفيت بسماع «حركشة» كيس القات حين يدخل فيه يده ليسحب ما تلتقفه من أغصان القات ليحشرها في فمه، لأسمع صوت أسنانه تطحن أغصان القات، كما لو أنه جمل يستجر ليلا في حديقة التحرير الموحشة.

شارلي شابلن
يقيت أرصد الأصوات الصادرة جراء حركة يديه وفكيه حتى أصابني الملل، فتحت هاتفي مجددا ورحت أفتش فيه عن مقاطع اليوتيوب التي حملتها.
فتحت مقطعاً للمتشرد شارلي شابلن وهو يتزلج، فصدرت عني ضحكة وأنا أشاهد شارلي شابلن يتزلج بعجلات ربطها إلى قدميه وهو معصوب العينين داخل منزل في طابقه الثاني المفتوح وبدون حواجز. لم يسقط، لكن عندما أزال العصبة عن عينيه ورأى أنه يتزلج عند حافة الدور الثاني المفتوح كاد أن يسقط.
ضحكت لهذا المشهد ونسيت أنني بين عشرات المتشردين في حديقة ميدان التحرير ليلاً. سمعني ذلك المتشرد «المخزن» القريب مني وأنا أضحك، فطلب مني أن أريه مقاطع اليوتيوب معي. اقتربت منه وسألته: 
- أيش قلت؟!
- المعذرة منك، ممكن أشاهد معك؟! أشتي أضحك مثلك!
 - قد الوقت متأخر، أشتي أرجع البيت.
- براحتك.
بالفعل كنت أنوي مغادرة المكان، ولكني تراجعت عن ذلك وناولته هاتفي ليشاهد المشهد الذي كنت أراه قبل ثوان، وجلست أدخن بجواره. هو شاب في الثلاثين من عمره. بدا ذلك من ملامحه التي أظهرتها إضاءة هاتفي.

حوار 
ظل الشاب المتشرد يشاهد مقاطع الممثل شارلي شابلن بانسجام وصمت، ولم يظهر على وجهه أي ابتسامة وهو يشاهد أيقونة القرن العشرين في الفن الصامت، الممثل الساخر والحزين شارلي شابلن، الذي أضحك البشرية كلها ماعدا هذا الشاب المتشرد «المخزن» وسط حديقة التحرير ليلاً. 
لماذا سيبتسم متشرد لمتشرد آخر يحكي معاناة شريحة واسعة من سكان العالم خلال القرن العشرين عبر الدراما؟! ها هو متشرد ثلاثيني يشاهد المتشرد شابلن تحت الصقيع الشديد ويتذكر معاناته وأنه متشرد حقيقي في اليمن، وليس درامياً.
انتهزت فرصة انسجامه ورحت أسأله: 
- تنام هنا؟
- أيوة.. 
-  ما فيش معك سكن؟!
-  كنت مستأجر محل، فأخرجني صاحب المحل لأني لم أستطع دفع الإيجار.
- تشتغل؟
-  كنت أشتغل، شاقي، فين الشغل يا أخي؟ قدك داري كيف الدنيا باردة.
-  كم لك هنا؟
- حوالي شهرين. 
- طيب وهؤلاء المتشردين، تعرفهم؟! 
- اعرفهم أشكال.. 
صمت لثوانٍ ثم أضاف:
- كم بيعرف الواحد؟! كل يوم أشكال تجي وأشكال تروح.
أشار بيده إلى الجهة المقابلة نحو متشرد كان نائما على أحد الكراسي، وقال: 
- هاذاك، تشوفه؟
- مش كثير، ما له؟ 
- له يومين يرقد هنا، هو كبير بالسن، بس شكله طيب.
- كلهم هنا طيبين، ليش الا هو طيب؟ 
ثم طلبت منه أن يعيد هاتفي أعاد لي الهاتف، وقال: 
- يا أخي، الطيب يعرف من شكله، صح؟! 
-  صح.
-  تصدق أنه (يقصد المتشرد الجديد الطيب) يرجع المغرب للنوم هنا ويجزّع لنا معه أكل.
-  لكم كلكم؟!
-  لا، لا، للذي جنبه، ولهاذاك المجنون.
- هاذاك الراقد هناك مجنون بالفعل؟ 
- (ضاحكاً) لا، بعقله! قدك تسمعه إلى هنا وهو يكلم نفسه. تصدق أنه يختفي أسبوع، أسبوعين، ويرجع لبقعته هذه، مدري وين يروح! تصدق أننا نرتاح بغيابه!!
- ليش؟
- يا أخي يضجنا بالهمهمة حقه والبول.
- البول؟!
-  أيوة، يبول بأي مكان في الحديقة.
- مجنون!
- أيوة، مجنون، ما اختلفنا، بس يسبب علينا... 
قاطعته أستأذن أن أغادر، فقال: 
- الله معك.
 
ميدان وطني
هذا الميدان المخصص للمناسبات والفعاليات الوطنية وإيقاد شعلة الثورة اليمنية سنويا، الثورة التي حققت أهدافها كاملة وللجميع!! وللتأكد من ذلك انزلوا إلى حديقة ميدان التحرير وإلى جوار الجامعة القديمة وجسر مذبح وإلى بقية شوارع العاصمة صنعاء، وستشاهدون كم هي مكتظة بمئات المتشردين والفقراء! وهذا هو أحد منجزات الثورة التي قامت لأجل العدالة والمساواة والتحرر من الظلم والاستبداد والجهل والفقر... الخ. 
قبل أيام التقيت متشرداً ما يزال ينام على الرصيف المحاذي للجامعة القديمة، واسمه عبد السلام، من محافظة إب.
منذ أن عرفت هذا المكان قبل سنوات وأنا أشاهد عبد السلام، الشاب الثلاثيني، متكئاً «يخزن» إلى سور الجامعة، يفرز علب المشروبات المعدنية من بين القناني البلاستيكية الفارغة. سبق أن كتبت عنه عدة مرات في صحيفة «لا».
المرة الأخيرة التي التقيت فيها عبد السلام سألته عن حاله وماذا يفعل هذه الأيام لتوفير الأكل بعد أن تراجع سوق الخردة. أجاب قائلاً: «لا تسألنا من أين آكل؟ أنا أدبر نفسي واعتمد على بيع العلب والنحاس والمعدن في محلات الخردة». 
أشار إلى متشرد آخر كان ينام جواره وقال لي: «اسأل هاذاك الشيبة من أين يأكل!».
- من أين؟!
- يذهب لعند صاحب هذا المطعم والا المطعم الثاني، مرة يعطوه بقية الأكل ومرة يرجعوه ويعود لبقعته خائب وبدون أكل، فيذهب يفتش أكوام القمامة.
- طيب معه أسرة أو عيال؟!
- والله ما لنا علم، ما يهدرش معانا كثير، ولا عرفنا ايش قصته! 

أب وطفلان يجمعهم التشرد
في المكان نفسه التقيت قبل أيام متشرداً آخر، برفقته طفلان، أحدهما في الخامسة، والآخر في الرابعة من العمر.  ينام الأب وطفلاه على رصيف الجامعة، ولديهم فرش وبطانية، وجوارهم هناك كيس «علاقي» مليء بالملابس.
قيل لي إنه كان مستأجراً وقد طرده صاحب البيت لعدم دفع الإيجار، وأن زوجته تركته قبل فترة مع أطفاله وذهبت بيت أهلها.
وقال هو: «حاولت أعطيها الأطفال بدل ما يتبهذلوا معي، لكنها تخاف من أهلها، لأنهم يضغطون عليها تتركهم معي بسبب كرههم لي». 
يمر الجميع بجوار «علي» وطفليه، وزراء ومدراء ووكلاء وزارات ومسؤولي منظمات قذرة وتجار... لم يسأله أحد لماذا هو هناك مع طفليه جوار سور الجامعة وتحت حرارة الشمس اللافحة نهارا، وزمهرير البرد ليلا! 

الحصار يضاعف أعداد المتشردين
لا إحصائية دقيقة أو حتى تقريبية لعدد المتشردين في العاصمة صنعاء والمحافظات اليمنية الأخرى. لذلك عدة أسباب، أولها أنه لا توجد هناك جهات رسمية تولي اهتماماً بهذه الشريحة التي تتسع رقعتها يوميا بسبب استمرار العدوان والحصار على اليمن.
وثانيها أن شريحة المتشردين لا يحظون باهتمام الجمعيات والمنظمات والمراكز المتخصصة، بل إنها وللأسف تتاجر بقضاياهم في مشروعات وهمية من أجل استدرار الدعم المالي من قبل المنظمات الدولية والدول المانحة.
ثالثها أن المتشردين في تحرك وتنقل دائم في الشوارع وما بين المحافظات، ولا يوجد مكان خاص يجمعهم حتى يتمكن الباحثون أو الجهات المعنية من إحصائهم ورصدهم.
هنا سأكتفي بعبارة بدلا من رقم لأعدادهم، فالمتشردون بالمئات داخل العاصمة، وأعدادهم في تزايد مستمر، وذلك لعدة أسباب، منها تدمير العدوان للبنى التحتية للبلد وفقدان الكثيرين لوظائفهم ومصادر دخلهم، بالإضافة إلى انقطاع الرواتب، وهو ما أدى إلى تضرر الكثيرين، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار والإيجارات وتدهور العملة المحلية. كل ذلك فاقم معاناة اليمنيين، وأصبح العديد منهم متشردين في شوارع العاصمة والمدن الأخرى.