كولن كاهل -

في يونيو/ حزيران 2011، بينما كانت القوات الأمريكية تنسحب من العراق، شن مسلحون تدعمهم إيران سلسلة من الهجمات الصاروخية القوية على قواعد الولايات المتحدة، وتم قتل أكثر من 10 جنود أمريكيين، وكانت أكبر خسارة في الأرواح في صفوف تلك القوات خلال عدة أشهر.
وكان لدى إدارة الرئيس السابق "باراك أوباما" خياران للانتقام، إما ضربة داخل إيران تقتل من خلالها قادة إيرانيين، وإما تنفيذ غارات عبر قوات العمليات الخاصة في العراق ضد القدرات الصاروخية للمليشيات. ولتفادي التصعيد إلى حرب أوسع مع إيران، اختارت الإدارة الخيار الأخير.
وفي نهاية الأسبوع الماضي، وردا على هجوم صاروخي في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2019، أسفر عنه مقتل مقاول أمريكي وإصابة العديد من الأمريكيين والعراقيين في قاعدة بالقرب من كركوك، اتبعت إدارة "دونالد ترامب" في البداية خيارا مشابها عبر شن غارات جوية انتقامية ضد كتائب "حزب الله"، المليشيا العراقية التي تتماشى بشكل وثيق مع الحرس الثوري الإيراني.
ولكن بعد ذلك، في وقت مبكر من يوم الجمعة الماضي، في العراق (الذي يوافق مساء الخميس في الولايات المتحدة)، ألقى الرئيس الأمريكي بقنبلة صادمة للمنطقة والعالم، حيث أذن لهجوم بطائرة بدون طيار أسفر عنه مقتل اللواء "قاسم سليماني"، قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني، وأحد أبرز قادة إيران، بالإضافة إلى عدد من كبار قادة المليشيات العراقية، بالقرب من مطار بغداد.

مرحلة أكثر خطورة من الاستفزاز
ومع مقتل "سليماني"، دخلت دورة الضغط والاستفزاز المستمرة منذ أشهر بين واشنطن وطهران مرحلة أكثر خطورة، وأصبح خطر اندلاع حريق في جميع أنحاء المنطقة أعلى احتمالا من أي وقت مضى، بحسب ما تقول مجلة "فورين بوليسي" في مقال ترجمه "الخليج الجديد".
وقبل الهجوم بفترة وجيزة، هدد وزير الدفاع الأمريكي "مارك أسبير" باتخاذ إجراء وقائي لحماية القوات الأمريكية، قائلا: "لقد تغيرت اللعبة". لكن هذه ليست لعبة، ولا يمكن أن تكون، مع حجم المخاطر بالنسبة للجانبين.
وبالنسبة لشخصية مثل "قاسم سليماني"، فلا يجب أن يذرف أحد الدموع لأجله، فقد ساعد كزعيم لفيلق القدس، في تنظيم هجمات المليشيات العراقية الشيعية التي أودت بحياة المئات من القوات الأمريكية خلال الاحتلال الأمريكي للعراق.
كما قام بتوجيه السياسة الإيرانية ودعمها لـ"حزب الله" اللبناني، والحركات الجهادية في غزة، والمتمردين الحوثيين في اليمن، ونظام "بشار الأسد" في سوريا، وكان له يد في الهجمات الإيرانية في الخارج، وحملات القمع ضد المتظاهرين الإيرانيين في الداخل.
وفي الآونة الأخيرة، ردا على انسحاب "ترامب" من الاتفاق النووي لعام 2015، وحملة "أقصى ضغط" التي فرضتها الإدارة الأمريكية، قامت إيران بسلسلة من الاستفزازات التي حملت بصمات "سليماني"، بما في ذلك تهديدات لقوات واشنطن في العراق.
ووفقا لرئيس هيئة الأركان المشتركة "مارك ميلي"، انخرطت الجماعات المدعومة من إيران في حملة متواصلة من الهجمات الصاروخية التي تستهدف المنشآت الأمريكية في العراق منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2019.
لكن حتى 27 ديسمبر/ كانون الأول، لم تُسفك أي دماء أمريكية، حتى تم قتل أمريكيين في غارة أخيرة، ردت عليها الولايات المتحدة بسرعة، وشنت ضربات ضد أهداف تابعة لكتائب "حزب الله" العراقي على جانبي الحدود العراقية السورية.
ودفع هذا بدوره قادة المليشيات الشيعية إلى الحشد لحصار السفارة الأمريكية في بغداد؛ ما أثار شبح سيناريو يشبه "بنغازي" الليبية، وكان هذا هو سياق قرار "ترامب" بقتل "سليماني".

مخاطر المواجهة
ولكن مهما كان الأمريكيون يشعرون الآن بتحقيق العدالة بقتل "العقل المدبر للإرهاب"، فلا ينبغي لذلك الشعور أن يحجب الاحتمال الحقيقي للغاية؛ بأن اغتياله قد يثير أحداثا تخرج عن نطاق السيطرة بطرق تضع المصالح الأمريكية ومصالح حلفائها في خطر أعمق.
وكانت إدارتان أمريكيتان سابقتان قد قررتا عدم اتخاذ قرار توجيه ضربة مباشرة ضد "سليماني" بدافع القلق، وشاركهما البنتاجون ومجتمع الاستخبارات ذلك القلق على نطاق واسع، من أن التصعيد الشامل قد يتبع مثل تلك الخطوة على الأرجح.
وفي الآونة الأخيرة، في الربيع الماضي على وجه التحديد، حذرت وزارة الدفاع البيت الأبيض من خطوة تصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية أجنبية، بحجة أنه قد يعرض حياة الأمريكيين في العراق وأماكن أخرى في المنطقة للخطر.
لكن "ترامب" أقدم على الخطوة على أي حال، وفي يونيو/ حزيران الماضي، ساعد رئيس هيئة الأركان المشتركة آنذاك، "جوزيف دانفورد"، في إقناع "ترامب" بالتراجع عن الانتقام لإسقاط طهران طائرة أمريكية بدون طيار عبر ضربة في الأراضي الإيرانية. لكن هذا الحذر لم يكن حاضرا هذه المرة.
وبرر كل من "ترامب" ووزير الخارجية "مايك بومبيو" قتل "سليماني" باعتباره ضروريا لتفادي هجمات إضافية وشيكة ضد القوات الأمريكية.
ومن الصعب تقييم هذه الادعاءات في غياب نشر الإدارة للمعلومات الاستخباراتية ذات الصلة، في حين أن بيان وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، الذي أعلن فيه أن الهجوم كان استباقيا، فإنه لم يكشف شيئا عن هجوم إيراني وشيك.
علاوة على ذلك، تشير بعض التقارير إلى أن "ترامب" سمح باستهداف "سليماني" بعد الهجوم الصاروخي في 27 ديسمبر/ كانون الأول، وأن قوات العمليات الخاصة الأمريكية كانت تنتظر لحظة الحصول على فرصة واضحة ومؤكدة لقتل "سليماني" منذ ذلك الحين.
وقد يفسر هذا سبب حدوث العملية حتى بعد انتهاء الحصار المفروض على السفارة الأمريكية، حين بدا أن الأحداث تهدأ في العراق.
وبغض النظر، يبدو أن "ترامب" وأقرب مستشاريه، كان لديهم نظرية وراء القتل المستهدف لـ"سليماني"، ويبدو أنهم يعتقدون أن إيران هي "نمر من ورق"، وأنه بمجرد انتهاء الضجيج، سوف تعود إلى كهفها من جديد.
والنظام الإيراني في الماضي أبدى بعض الحذر في مواجهة عدو أقوى، وكذلك الأمر في إدارة التصعيد، حيث استجاب القادة الإيرانيون تاريخيا للهجمات التي كانت سرية ويمكن إنكارها، بأن غضوا الطرف عن الرد.
لكن عملية "سليماني" مختلفة. لقد كان عملا علنيا ضد ثاني أشهر مسؤول في إيران. ومن وجهة نظر إيرانية، فإن الاغتيال يعادل أن يتم قتل مدير وكالة الاستخبارات المركزية، ووزير الدفاع، ووزير الخارجية، معا، لكن كل ذلك بالنسبة لإيران كان يجتمع في شخص واحد.

أشكال الرد المتوقع
وسواء أكانت الولايات المتحدة توافق أم لا، فإن إيران تعتبر ذلك عملا من أعمال الحرب. وسوف يرد النظام في الوقت والمكان والطريقة التي يختارها؛ لأن الشيء الوحيد الذي يخشاه أكثر من الصراع مع الولايات المتحدة هو التراجع في مواجهة مثل هذا التحدي المباشر للنظام.
وردا على قتل "سليماني"، هدد المرشد الأعلى الإيراني "علي خامنئي" بأن "الانتقام القوي ينتظر المجرمين الذين سفكوا دماء سليماني ودماء الشهداء الآخرين".
وقد يأتي الانتقام في أشكال عديدة، ويمكن لإيران دفع مجموعات المليشيات الشيعية لتصعيد الهجمات الصاروخية والقنابل المزروعة على الطريق بشكل ملحوظ ضد الأفراد الأمريكيين في العراق، والدفع باتجاه تنظيم احتجاجات وهجمات إضافية ضد السفارة الأمريكية في بغداد.
وقد يستهدف الوكلاء الإيرانيون بضع مئات من القوات الأمريكية التي تحمي حقول النفط في شرق سوريا، أو القيام بهجمات مباشرة ضد القوات الأمريكية في أفغانستان.
ويمكن لإيران أن تطلق صواريخ باليستية على المنشآت الأمريكية في العراق أو الخليج العربي، أو تكثف عمليات تخريب الشحن الدولي عبر مضيق هرمز، أو شن هجمات إضافية بالصواريخ أو الطائرات بدون طيار ضد البنية التحتية الحيوية للطاقة في المنطقة، أو تشجيع "حزب الله" اللبناني، أو الحركات الفلسطينية المسلحة، على مهاجمة "إسرائيل".
ويمكن لطهران تنظيم هجمات ضد الأمريكيين أو المصالح الأمريكية في المنطقة، كما فعلت في الثمانينيات في بيروت، وفي عام 1996 في عملية "أبراج الخبر" بالمملكة العربية السعودية، أو التخطيط لشن هجوم داخل الولايات المتحدة، كما حاولت في عام 2011 ضد السفير السعودي في واشنطن، أو يمكن لإيران استخدام قدراتها الإلكترونية المتطورة بشكل متزايد لضرب الولايات المتحدة.
وإذا تسبب الانتقام الإيراني في المزيد من الدماء الأمريكية، فسوف يدفع ذلك بضربات أمريكية مضادة، تهدف، على حد تعبير بيان صدر مؤخرا عن البنتاجون، إلى "ردع خطط الهجوم الإيراني المستقبلية".
وسوف يضطر القادة الإيرانيون، عند مواجهة ضربات أمريكية إضافية ضد قواتهم ومصالحهم، إلى رد مماثل. وقد لا يرغب أي من الطرفين في حرب شاملة، لكن مع كل تصعيد وتصعيد مضاد، تزداد احتمالات الانزلاق إلى مثل هذه الحرب، ويكون من الصعب رؤية مجال للهروب من هذه الدوامة المتصاعدة.

عواقب جانبية
وحتى إذا تجنب الجانبان شن حرب إقليمية، فمن المحتمل أن تكون هناك عواقب جانبية أخرى عميقة لمقتل "سليماني". وقد يتسبب الغضب العراقي من العملية في جعل الوجود الأمريكي في البلاد يقترب من نهايته.
حيث ندد رئيس الوزراء العراقي "عادل عبدالمهدي" بالضربة بالفعل، باعتبارها انتهاكا للسيادة العراقية، وعملا عدوانيا ضد الشعب العراقي، ولن يكون مفاجئا إذا طالب البرلمان العراقي بالانسحاب الكامل للقوات الأمريكية في الأيام المقبلة.
وقد يستغل "ترامب"، الذي طالما كان ينتقد تأمين الحلفاء "غير الممتنين"، الأمر بالفعل كفرصة لسحب القوات. وربما تروق النتيجة لمؤيدي "ترامب"، لكنها ستمهد الطريق لإيران لتوسيع نفوذها في العراق بشكل أكبر، مع زيادة صعوبة التحقق من عدم عودة تنظيم "الدولة الإسلامية".
ومن المحتمل أن تكثف إيران استفزازاتها على الجبهة النووية أيضا. وخلال العام الماضي، ردا على انسحاب "ترامب" من الاتفاق النووي، استأنفت طهران تدريجيا عناصر برنامجها النووي.
ومع تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة، من المحتمل اتخاذ خطوات أكثر دراماتيكية، بما في ذلك استئناف مستويات أعلى بكثير من تخصيب اليورانيوم. وبينما تقترب إيران أكثر فأكثر من القدرة على إنتاج الوقود لسلاح نووي، مع تلاشي احتمالات الحل الدبلوماسي، سوف يظهر طريق آخر إلى مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة أو "إسرائيل".
وبالنظر إلى هذه المخاطر، تحتاج الإدارة إلى إطلاع الشعب الأمريكي على استراتيجيتها وخططها، وتحتاج إلى توفير المعلومات الاستخباراتية التي استخدمتها لتبرير الضربة، وشرح كيف سيخفف ذلك من المخاطر التي لا تعد ولا تحصى الناجمة عن ذلك.
يجب أن تكون الإدارة قد استعدت قبل الضربة لعملية أمنية وطنية شاملة لضمان سلامة الأفراد العسكريين والدبلوماسيين الأمريكيين في جميع أنحاء الشرق الأوسط، والاستعداد لعمليات الإجلاء المدني المحتملة، وحماية البنية التحتية الحيوية في المنطقة وفي الداخل ضد المليشيات المدعومة من إيران أو الهجمات الإلكترونية، وأن تكون القوات الأمريكية مستعدة لردع طهران وإدارة التصعيد معها.
وحتى الآن، لم يُظهر "ترامب" العقلية أو الصبر اللازم لمثل هذه المداولات، ولم تُظهر إدارته أبدا مثل هذه الكفاءة. والآن، بسبب القرارات "المشؤومة" التي اتخذها، تواجه الإدارة إلى حد بعيد اختبارها الأعظم.
وبينما تتوجه الولايات المتحدة إلى مياه مفتوحة ومظلمة على نحو متزايد، يوجد خطر حقيقي للغاية من أن الإدارة "تبحر عمياء" عبر هذه المياه.


مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية
"الخليج الجديد"
4 يناير 2020