صلاح الدكاك / لا ميديا -

شبح «الشيوعية» لا يزال يحلق على علو منخفض من وسائد الأمريكيين، ويعكر صفو أحلامهم، فصناعة «الفوبيا الأيديولوجية» التي تعهدتها «هوليوود» والنزعة «المكارثية» التي سحبت نفسها على كل شيء في أمريكا، لقرابة 5 عقود من الزمن، ليس من السهل أن تنمحي آثارها بمجرد انهيار «جدار برلين».
أدرك ـ إلى حد ما ـ أن «دولة الرفاه» نشأت كردة فعل وحائطِ صدٍّ حيال هبات نسائم الاشتراكية السوفياتية و«الماركسية اللينينية» على أمريكا وبلدان الغرب الرأسمالي، وبهدف تخدير وإخماد التناقضات الطبقية في البنى الاجتماعية لتلك البلدان. فإذا كان بوسعنا الجزم بأن الفضل في نشوء «دولة الرفاه» يرجع ـ بصورة مباشرة ـ للشيوعية، فإن المفارقة أن «الشيوعية» هي المتهمة بتقويض «دولة الرفاه» في الخطاب الثقافي الأمريكي.

هذا ما استمات المحاضر الأمريكي من أصل لبناني لإثباتـه بغـية تخليص إدارة الرئيس «ريغـن» ورئيسة الوزراء البريطانـية «تـاتـشــر» من شائبة شرٍّ متمثلة في تدشين مرحلة إهدار حقوق ومكتسبات الطبقة الوسطى وقوى الإنتاج في المجتمعات الرأسمالية.
فـ«التروتسكيون الأمريكيون -حزب الشاي» المحيطون بـ«رونالد ريغن» ـ في اعتقاد المحاضر المخلص ـ هم من وسوس في صدر هذا الأخير؛ وزيَّـن له سلوك طريق «العولمة النيوليبرالية»؛ الكارثي. بل إن «التروتسكيين» هم «المحافظون الجُدد» ذاتهم.
في المحصلة، فإن المحاضر في مؤسسة «مريديان» المتعهد الحصري لـ«برنامج الزائر الدولي»؛ إذ بدا مستميتاً في تأكيد «لا منطقه» الفاضح، كان يؤكد ـ بصورة غير مباشرة ـ أن ملائكية صُنَّاع القرار الأمريكي لا تتحقق إلا عبر شيطنة الآخر، وأن الذهنية المنتجة للخطاب الأمريكي الرسمي لم تتعافَ بعد من «فوبيا الشيوعية»، فالقضية لا تتعلق ـ في واقع الحال ـ بزوال الخصم المنظور متمثلاً في الاتحاد السوفياتي؛ بل بالحاجة الماسة لدى النخبة «السيااقتصادية» المسيطرة، إلى تلافي انفجار التناقضات البنيوية الحتمي للرأسمالية في بؤرة عرينها الكوني.
ربما اختفت الاصطلاحات التحريضية المعادية علناً للشيوعية من الأدبيات السياسية والثقافية والفنية الأمريكية عقب حقبة الحرب الباردة، لكن النيل من مرشح كــ«أوباما» أثناء احتدام المنافسة على الرئاسة، عبر القول بأنه «كان صديقاً لإحدى الشخصيات المدانة بتهمة الانتماء لتيار يساري متطرف»، تبقى دعاية ناجعة يدرك مطلقوها مدى تأثيرها في المزاج الجمعي للرأي العام، وجدواها في خفض شعبية الخصم المنافس، بيد أن الأزمة المالية العميقة التي كادت تعصف بمداميك الحياة الأمريكية إبان انتخابات 2008م، قلَّصت من أثرها على الرأي العام الذي كان مستعداً للسباحة بعكس قناعاته الراسخة، والقبول ببشرة سوداء في البيت الأبيض، حتى وإن كان صاحبها هو «نيكيتا خوروشوف» ذاته، على أمل النجاة من احتمالات الغرق الوشيك.
كان «الدكتور لاوري» ـ وهو قِس أسود وأحد رفاق «مارتن لوثر كنج»، وناشط في حركة «احتلوا وول ستريت» ـ يغتلي حماسةً وهو يحدثنا عن مدى استجابة الشارع الأمريكي لنداء الحركة على امتداد الولايات الـ50 مع أزوف موعد الزحف المقرر على سوق الأوراق المالية الشهير في «نيويورك».
في مسقط رأس الزعيم «مارتن لوثر كنج» بولاية «أتلانتا جورجيا» جنوب شرق العاصمة، وذات الغالبية السوداء، تنشط العديد من المنظمات والحركات التي تعنى بحقوق السود، ويترأس «لاوري» واحدة من أبرز تلك المنظمات التي يجمع معظمها ـ على الأقل ممن قدر لنا لقاؤهم ـ على أن حال السود لم يتغير كثيراً بعد قرابة 5 عقود على واقعة اغتيال «لوثر» مؤسس حركة الحقوق والحريات المدنية التي وحَّدت نضال السود ضد التمييز العنصري.
يلخص «لاوري» ذو البنية الجسمانية الفارهة؛ المأزق الجوهري للسود بالقول: «لقد وجدنا أنفسنا في بلد رأسمالي بدون رأسمال..»، وهو مأزق طبقي لم تكن إزالة المتاريس القانونية التي تعيق نظرياً اندماج السود في المجتمع الأمريكي، كافية وحدها للخلاص منه على طريق تحقيق التحول المنشود في أوضاع هذه الشريحة التي رسفت لقرون عدة تحت نير الاسترقاق والتمييز العنصري.
يتطلَّب الأمرُ معالجاتٍ جذريةً تطال بنية النظام الرأسمالي نفسه. ولأن معالجات من هذا القبيل لم تحدث، فقد ظلت أكثرية السود عاجزة بفعل الإعاقة التاريخية عن الانتفاع من مكتسباتها النظرية على مصاف القانون في الرُّقي بأوضاعها.
واليوم، فإن شركة سيئة الصيت وذات رصيد عنصري ضخم مثل «كوكا كولا» التي تتخذ من ولاية «أتلانتا جورجيا» مقراً لها، لا تزال قادرة على مزاولة التمييز ضد السود باستثمار الهامش العملي الفسيح الذي يتيحه اقتصاد السوق، بمنأى عن اجتراح شائبة مساس بالقوانين.
فالسود ـ بحسب مصادر حقوقية معنية ـ موظفون وعاملون غير مرغوب فيهم من حيث المبدأ في قطاعات «كوكا كولا»؛ والنسبة التي تُرغَم الشركة على استيعابها منهم يحصلون على نصف رواتب نظرائهم من البيض ممن يتمتعون بذات الكفاءة والمؤهلات.
يحـسُـن تقييم أوضاع هذه الشريحة العريضة بالنظر إلى الأعداد الغفيرة التي تكتظ بها سجون الولايات الفيدرالية منها، والتي تهوي باضطراد إلى حضيض المعدمين، لا بالنفر المعدودين الذين تقذف بهم ضربة حظ إلى صدارة المشهد وذروة مباهج الحياة الأمريكية الباذخة. في العام 2008 كان نصيب هذه الشريحة المفقرة من السجناء في الولايات المتحدة 250 ألف سجين؛ نسبة كبيرة منهم محكومون بالإعدام؛ بحسب معطيات رسمية ؛ ويحصد «حيُّ هارلم في نيويورك» شهرةً عالمية موازية لـ«الضاحية 13 في باريس بفرنسا» بوصفه «جيتو» للزنوج مغلقاً على الجريمة المنظمة وحياة البـؤس، وحضيضـاً للمخدرات والإدمان..
إن السود ـ بطبيعة الحال ـ لا يعانون لأسباب تتعلق بلون بشرتهم، بل لأن وسائد الحياة الرأسمالية الوثيرة محشوة بقطن شقاء الطبقات المسحـوقة، ولا تقبل القسمة على أكثر من واحد في المائة من قوام المجتمع الأمريكي البالغ نحو 300 مليون نسمة.
يمكن التسليم بخصوصية تاريخية لأوضاع زنوج أمريكا، تجعل حصتهم من القهر والمعاناة أوفر من سواهم من الشرائح، إلا أن ربط هذه المعاناة حصرياً بلون البشرة، هو مقاربة لئيمة توارب حقيقة الصراع الطبقي، عن طريق تلوينه عرقياً وطائفياً بقصد شـَــرْذَمة نضال الطبقات المستغَلة على اختلاف ألوانها ومنابعها، للحيلولة دون اصطفافها وتلاحمها الطبقي في مواجهة قوى الاستغلال.
إن 10 دولارات تتملق بها ابتسامة «نادلة بار» حسناء، هي مبلغ يستحق ـ في نظر مكسيكي بائس ـ أن يتأرجح في سبيله من سطح بناية شاهقة ليَجْلُوَ زجاجها مقامراً بحياته. وفيما تلوح الحدود الأمريكية مشرعة أمام عصابات الجريمة المنظمة التي تتخذ من أراضي المكسيك الجار التعيس ملاذاً، فإن ذات الحدود في الاتجاه النقيض موصدة بإحكام أمام عشرات الآلاف من العمال المكسيكيين الذين يخاطرون بأرواحهم لاختراق الأسيجة المكهربة يومياً، بحثاً عن كفاف العيش في الضفة الأخرى المتخمة منها «بلاد العم سام»!.
إن «عزيزة مجازين»، وهي مجلة تُعنى بثقافة المرأة المسلمة كما تُعرِّف نفسها، وترأس تحريرها امرأة أمريكية من أصول زنجية، هي أحد التعبيرات المتحدرة عن المقاربة الآنفة التي توارب الصراع الطبقي عبر تلوينه.
بمحاذاة اختزال معاناة زنوج أمريكا في بشرتهم، تضيف المجلة اختزالاً آخر: «إن المعاناة تطال المسلمين من السود، فقط لأنهم مسلمون». وهو اختزال لا تتحرج رئيسة التحرير التي تحمل اسم المجلة نفسه، عن التصريح به، وإن بصيغة محورة وبمغزى تلخصه «عزيزة» في «دفع المرأة المسلمة الزنجية لمواكبة ثقافة العصر وتقديم صورة حضارية تدحض الصورة الشائعة عنها كـ[متزمتة]»، كما وفضّ الالتباس بين الإسلام والإرهاب.. لكن من يعمل على تغذية هذا الالتباس والاستثمار فيه.؟! سؤالٌ لا يروق للكثيرين طرحه لأنه يسلط الضوءَ على أغوار لعبةٍ قذرة؛ ينبغي أن تظل مواربة!
تتلقى المجلة معونات نقدية من جمعيات خيرية، وتسعى ـ وفق عزيزة ـ لاستقطاب دعم البلدان الخليجية التي ترى فيها مثالاً لمناصرة قضايا «الأقليات» المسلمة. هكذا فإن الزنوج إذ كانوا في السابق؛ فقط «سوداً»؛ يصبحون مسلمين ومسيحيين، يُعرِّفون وجودهم بمقتضى الانتماء الديني، مبتعدين أكثر فأكثر عن مجرى الصراع وماهية العدالة التي يتحتم النضال في سبيلها وترفع المعاناة عنهم!
لقد بدد رجل أهوج مثل «أليجا محمد»، في خمسينيات القرن الفائت، الكثير من طاقة زنوج أمريكا في صراع عبثي وظَّف خلاله «الإسلام» باعتباره ديناً مناهضاً للبيض على النقيض للمسيحية التي تناصب السود العداء، برأيه؛ الأمر الذي أتاح للنخبة الطبقية المسيطرة إدارة الدُّمى المقتتلة على الجانبين لمصلحة تأبيد الاستغلال؛ فأتباع «أليجا محمد» ـ وكان يتلقى دعماً خليجياً هو الآخر ـ من جهة، تقابلهم عصابات الحزب النازي الأمريكي الـ«كو كلوكس كلان» من جهة أخرى.
فيما من المؤكد أن اغتيال المناضل الزنجي «مالكولم إكس» والزعيم الملهم «مارتن لوثر كنج»، كان مصلحة لكلا الفريقين وللنخبة المسيطرة بالأحرى، والتي كان الراحلان يمثلان تهديداً جدياً لجوهر هيمنتها القائمة على فرز الطبقات المسحوقة إلى جزر معزولة بتوظيف أحط الأدوات نازيةً وانتهازية.
ربما تلقي الخطوة الأهم التي دشن بها «أوباما» ولايته الأولى، الضوء على واحد من أبرز التناقضات العميقة التي تمثل بديهة لا تلفت نظر الكثيرين في الأداء الرأسمالي. أعني بتلك الخطوة إدراج 30 مليون مواطن أمريكي ضمن المنتفعين من برنامج التأمين الصحي، وفي ميزان الرأسمالية الأمريكية، فإن هذا يعد انقلاباً ورِدَّةً لم يكن «الجمهوريون» ليستسيغوها في حينه لولا تهديد الأزمة المالية.. واليوم فإنهم يحكمــون الخناق على «إدارة أوباما» لقسره على التراجع عنها.
وبمنأى عن الجدل المحتدم بين الحزبين، فإن الكارثي أن 30 مليون نسمة تداركتهم رحمة «أوباما» حديثاً، كانوا ـ في واقع الحال ـ يعيشون نهباً لأنياب الموت قبل أن تشملهم هذه المكرمة، فالحصول على التأمين الصحي مرهون بالحصول على فرصة عمل، والعمل مرهون بمقدار ما تحتاجه السوق من الأيدي العاملة وفقاً لمبدأ العرض والطلب. هكذا تأخذ السوق كفايتها وتلفظ فائض قوة العمل المعروضة كالنشارة المتخلفة عن الأخشاب بعد كشطها.
لقد أنعشت الحكومة الفيدرالية رئات الشركات الكبرى التي كادت تلفظ أنفاسها إبان الأزمة، بأموال دافعي الضرائب الذين يتعين عليهم ـ وهم الغالبية ـ أن يكدحوا كثِيْرانِ الساقية معصوبي العيون، يضخون الكثير من المال نظير القليل من العلف والرعاية، فتحت نَيْرِ الاستغلال لا فرق بين أبيض وأسود ولا مسيحي ومسلم إلا بمقدار ما يفقسه من ريع في حجر النخبة المسيطرة.

من قتل مايكل جاكسون؟!
أعترف بأنني -وبعفوية لئيمة- كنت كيدياً حيال بلدٍ تمثل زيارته حلماً بعيد المنال بالنسبة لأكثرية النخب المثقفة وعامة الناس على امتداد خارطة شرقنا العربي البائس والمضعضع.. في الحقيقة لقد حاولت وفشلتُ في أن أكون إلا كيدياً لأسباب تتعلق بسياق مديد ومعقد من الملابسات التي ليست «الأيديولوجيا» أبرزها كما قد يروق لشريحة من القراء المتربصين أن يجزموا..!
على متن الطائرة وفي محطات «الترانزيت»، وطيلة أسبوع من التسكع في شوارع «واشنطن دي سي»، أمضيت الوقت مرتدياً «تي شيرت» أحمر موشوماً بصورة «فلاديمير إليتش أورليانوف- لينين»، وممهوراً بحروف روسية تقول: «سيبقى الحزب ضميرنا الحي».. كنت «سادياً» وملتذاً للغاية بحصاد لا بأس به من نظرات العيون المستهجنة والهازئة والمتأففة. ولاحقاً لم يتسنَّ لي أن أتأكد مما إذا كانت «الشيوعية» لا تزال كما كان سارياً «التهمة القانونية الوحيدة» التي تُسقط الجنسية الأمريكية عن مكتسبيها ممن تثبت في حقهم!
المؤكد أن «الفصل من العمل» لا يزال سيفاً مسلطاً على رقبة كل عامل يتكهن «وليُّ نعمته» بأن لديه ميولاً يسارية.. فقط لمجرد التكهُّن، وفي سياق لصيق، حوكم عدد وفير من مثقفي الولايات المتحدة وعلمائها بتهمة الانتماء لخلايا شيوعية، وفي صدارة هؤلاء «أوبنهايمر».. الرجل الذي حوَّل «تهويمات أينشتاين الورقية» إلى فَناء حتمي بقطر الكرة الأرضية، وفقست على يديه معادلات الانشطار النووي بيضتها الذرية الأولى، وانبثق «فجرها الساطع، من صحراء نيفادا»، مؤذناً بولوج حقبة كونية مصير البشرية فيها مرهون بكبسة زر..
أكاد أسمع شريحة القراء المتربصين يؤكدون: «إنها الأيديولوجيا إذن. إنه الموت لأمريكا ولا ريب»! بيد أنني مازلت متشبثاً بحقيقة أن «الأيديولوجيات الراديكالية» ليست الحافز الأبرز لتكون كيدياً إزاء الولايات المتحدة، مع إضافة أنها ليست أقل الحوافز أهمية.. لعله «شبح الهندي الأخير» الذي يزوبع ككائن أسطوري بامتداد مجرى نهر «بوتوماك»، فيكسر إيقاع دفقه الوادع باختلاج متألم حزين، ويخدش صورة وجهك المنعكسة على صفحة مياهه بقسوة تحثك على اقتفاء الرواية المنسية عن تاريخ المكان خُطا غزلان المحميات المذعورة ونُواح «اللاما» وأنين السناجب الهاربة على الدوام من أرتال الأحذية غير الآبهة وإنذارات الإخلاء المستمر.
لا أستطيع أن أكف عن التفكير في أن التراب الذي أتجول عليه تراب مسروق، وأن الحقول والغابات والأحراش التي تلوح من نافذة الطائرة بلا تخوم ينقصها جسد أسمر عارٍ يركض ملتحماً بصهوة جواد لا يثقله سرج ولا تعيق حوافره حدوة، ولا تُخدِّد المهاميز جلده الوحشي الساحر البديع.
أشاهد «روح الهندي الأخير» مصلوبةً خلف جداريات مكتبة «الكونجرس» ولوحاته التي تطل ناتئة باهتة وبلا روح. أشاهدها خلف معروضات متحف «النيوزيوم» وفي أبهاء متحف «الفضاء».
كل فرط الأناقة والدقة التي تطالعك باتساع سياقاتها ليس إلا محاولات صفيقة لطمر تاريخ المكان، وعدا مبنى الـ«إف.بي.آي» فإن لون جميع المباني الفيدرالية أبيض، ويسفر عن شهوة مقيتة لمحو ذاكرة القارة السمراء التي أصبحت على أيدي حملات الغزاة (الواسب واليانكي الإنجلوسكسونية البروتستانتية)، تعرف بـ«U.S.A»، ويديرها «بيت أبيض تديره اللوبيات» أو جماعات الضغط المرادف الأخف وطأة لعصابات «المافيا».
يخيل إليك وأنت تتجول مشيعاً بكل هذا البياض المؤدلج، أن المباني مجاميع من عصابات «الكو كلوكس كلان» الأمريكية النازية التي كان أفرادها يرتدون زياً موحداً هو عبارة عن دشاديش بيضاء سابغة بقلنسوات، ويتخذون من قتل واختطاف السود والتنكيل بهم وإحراق منازلهم بمن فيها، حرفة يومية طوال عقود امتدت لستينيات القرن الفائت.
إن أغاني «الهيب هوب والراب»، ذات المنشأ الزنجي الصرف، ليست -في واقع الحال- إلا تكثيفاً فنياً لإرث قرون التنكيل الذي قاساه السود على أيدي الغزاة الأوروبيين، كما وقالباً يستفرغون من خلاله مخاوفهم التاريخية المتأصلة في صورة حركات ترميزية لتجارب مريرة من قبيل إطلاق الكلاب المدربة على أبناء جلدتهم بهدف العقاب والتسلية كما جرت العادة في المستعمرات الإقطاعية، علاوة على شنقهم على أشجار الطرقات والميادين العامة وسط مشاهد احتفالية يحرص بعض المستعمرين على ألا تفوت أطفالهم متعة حضور طقوسها البشعة.
لقد دفعت قرون القهر المنقطع النظير، بأكثرية السود، لا إلى مقت ذوي البشرة البيضاء فحسب، بل مقت أنفسهم، ويعتقد عدد من اختصاصيي علم نفس الاجتماع أن السيرة الحياتية المضطربة لنجـــم «الراب» العالمي الأشهـر «مايكل جاكسون»، تمثـــل انعكاساً جلياً لعقدة اضطهاد تحولت إلى عقدة وجود، وتمظهرت لدى «جاكسون» في صورة هوس الشهرة التي أوصلته لنجومية عالمية، ثم سعيه لتغيير جنسه من رجل ببشرة سوداء إلى امرأة ببشرة مائلة للبياض.
إلى ذلك، فإن سيرة «جاكسون» تعد ـ في مجملها- أبرز محاكمة علنية في القرن العشرين لحضارة «اليانكي» التي لم يغفرها له رموزها، فأطلقوا عليه أسماك القرش الفنية وإعلام الشائعات وأنياب النازية الجديدة والناعمة، لتنهشه حتى النفس الأخير.


* كونتا كانتي بطل مسلسل الجذور الذي يتناول تعبيد الأفارقة «لإقطاعيات القارة الجديدة» في فجر نشأة الولايات المتحدة الأمريكية.
كتبت هذه المادة بين عامي 2011 و2013م.