يحيى اليازلي / لا ميديا -

في كتابه "فنون الأدب الشعبي في اليمن"، قدم عبد الله البردوني مادة ثقافية دسمة.
الكتاب 600 صفحة من القطع الكبير. النسخة التي لديّ هي الطبعة الخامسة، وصدرت عام 1998، مطبوعة في لبنان، دار البارودي.
سعر النسخة 75 ريالاً، كما هو مكتوب الغلاف الأخير، وفعلا أنا اشتريت هذه النسخة بـ75 ريالاً في ذلك العام نفسه.
لكن سعرها الآن في عام 2019، في المكتبات، تقريبا 3000 ريال، أي أن ثمن النسخة تضاعف أكثر من ثلاثين ضعفاً!
ومعروف أن البردوني فاز بثلاث جوائز متفرقة للشعر، وكان في كل مرة يطبع كتبه بقيمة الجائزة. أعتقد أنه كان يبيع النسخة بربع تكلفة الطباعة أو أقل، يعني لو كانت تكلفة طباعة النسخة ألف ريال يبيعها بـ75 ريالاً!
الكتاب مفهرس على سبعة فصول، كل فصل يتحدث عن موضوع من مواضيع فنون الأدب الشعبي في اليمن.
فن الحكايات، حكيم الشعب علي بن زايد، الفن الزواملي، شعر المهاجل، الأغاني الشعبية، تحول الأغنية الشعبية على يد مطهر الإرياني، الأمثال.
الفن الزواملي عند البردوني: أطواره، أسباب وجوده، عوامله الاجتماعية، فنه السياسي
افتتح البردوني هذا الفصل عن الفن الزواملي بمقولة لمفكر غربي اسمه "هوايتمان".
انظروا إلى كم الجمال الذي يتمتع به هذا الفيلسوف اليمني العبقري، البردوني، وكيف استطاع أن يمزج بين فلسفته عن الفن الشعبي في اليمن وبين الأدب الشعبي في العالم. إنها براعة البردوني في توصيف الفن الإنساني وجعله نصب عينيه وعلى قدم المساواة، على اختلاف مصادره، فكان الأدب الشعبي بعيون "هوايتمان" والفن الشعبي في اليمن وهو أديبه على حد سواء. هذا من جانب، ومن جانب آخر أريد أن أتحدث عن آفاق ثقافة البردوني، وهو معروف، لكن من باب التذكير، فإن البردوني بداية أهم مخرجات المدرسة المعتزلية في اليمن، مدرسة العقل والعدل والتوحيد والمنزلة بين المنزلتين، ونقد الذات والموضوع، والحرية، والفلسفة الكونية، فلسفة الوجود واللاهوت... وهو أحد أهم شعراء اليمن والعالم.
ويرى "هوايتمان" أن الأدب الشعبي ينبعث من أجيال عديدة من البشرية، من ضرورات حياتها، وعلاقاتها، من أفراحها وأحزانها... وأما أساسه العريض فهو قريب من الأرض التي تشقها الفؤوس. وأما شكله النهائي فهو من صنع الجماهير المغمورة المجهولة، تلك التي تعيش لصق الواقع.
ما ذكره البردوني في كل فلسفته، كتبه، حواراته، وما ذكرناه عنه وما كتب عنه وما سيقال عنه دليل جلي على أنه قد تجاوز كل التصورات وكل الوصف، فهو فيلسوف إنساني عالمي.
وتناول البردوني في الفصل الثالث ثلاث نظريات أخرى عرفت الأدب الشعبي، لكنه بعد ذلك قال: "وعلى هذا فالزوامل الشعبية تنطبق على أكثر هذه النظريات".

ما هو الزامل؟
الزامل في اللغة الفصحى: الصوت المختلط من عدة أصوات، أو العدْو المتمايل كسرعة الأعرج. وقد يتسع مدلول التمايل ليشمل التماوج كصورة للكثرة. هذا تعريفه في مدلوله اللغوي. أما تعريفه في محتواه فهو تعبير الحياة المباشرة من خلال الأصوات المتجاوبة، فلا تتوسط الحياة والفن المعبر عنها تجربة خيالية أو تصور فني رفيع. فالزامل إنتاج جماعي روته أجيال عن أجيال. يقصد البردوني في نهاية الفقرة السابقة أنه لا يستقيم هذا الفن إلا عن تجربة في الواقع، مما يؤكد صحة ما ذهب إليه في مقال سابق من أنه لا يمكن أو لا ينبغي لشاعر لم يذهب إلى جبهات القتال أن يكتب زاملا عن الحرب، فهذا غير منطقي.
وفي الفقرة السابقة للبردوني أيضاً خلاصة لمفهومه للزامل، وخلاصة المفهوم أنه فن اجتماعي جماعي متطور موروث جيلا عن جيل. وإذ هو كذلك فقد نشأ فنا حربيا ثم اتسع ليشمل جوانب اجتماعية وسياسية. 
ومع ذلك فقد عبرت في مقال سابق عن مفهومي للزامل وقلت إنه صوت الحرب والسلام.
بعد أن عرفنا أن الزامل هو من إبداع روح الجماعة، وأنه لا يترك أثرا في الوجدان إلا حين يؤدى بواسطة مجموعة من الرجال، لكونه معبرا عن واقع وحياة اجتماعية، بمختلف أحوالها وناتج عنها، هذا من الناحية النظرية، يمكن أن نسأل: لماذا لا نرى في المشهد الفني الزواملي اليوم أربعين رجلا يؤدون زاملا؟! فمع كثرة الأحداث وتواترها كل يوم وبكثافة عالية، لا نشهد إلا رجلا واحدا يؤدي الزامل، وهو عيسى الليث.
ولقد قلنا آنفا إن الذاكرة الشعبية روت لنا من خلال بعض المعمرين أن القبائل تعلموا الزامل من الجن ليلة اجتياح دقيانوس، حين فروا إلى الكهوف، وفي هدأة الليل سمعوا الجن يؤدون زاملا يقول:
قبح الله وجهك يا الذليل 
عاد بعد الحرايب عافية
عند شب الحرايب ما نميل 
با تجيك العلوم الشافية
ثم بعد أن أنصتوا له وحفظوه وأدوه بصورة جماعية، اتجهوا في اليوم التالي أو في اللحظة نفسها إلى قتال غزاة دقيانوس.
والآن، ألا يجوز لنا اعتبار صوت عيسى الليث الجميل هو نفسه الصوت الصادر من الكهوف، إلا أن ذاك صوت من عزيف الجن وهذا صوت من عزيف الإنس؟!

من أي أصل آتى هذا الفن؟
لقد نشأ من أصل خرافي، يشبه حكاية القات. ويقصد البردوني بذلك أن فن الزامل وصل إلينا نحن معشر الإنس في اليمن من عالم آخر غيرنا. فحين كان التيس سببا لاكتشاف القات، كانت الجن سببا لاكتشاف الزامل. ولم يذكر مراحل تطوره في الفقرة نفسها. وبالنسبة لزمن حدوثه فيحيله إلى سنة دقيانوس، كما سمع من بعض المعمرين، وهي سنة الاحتلال أو الاجتياح الروماني للبلاد في القرن الثالث للميلاد.
الأسطورة تقول إن قبائل فرت إلى الكهوف جراء هجوم جيش دقيانوس، ثم وفي هدأة الليل سمعت أصواتا جهيرة كثيرة العدد بديعة الإيقاع، لم تسمع أجمل منها، وكانت تردد باللغة الشعبية زاملا يهز النفوس ويرنح قامة الصمت، كما يصفه البردوني نقلا عن المعمرين. وعندما أصغت القبائل حفظته. وصيغة ذلك الزامل هي:
قبح الله وجهك يا الذليل 
عاد بعد الحرايب عافية 
عند شب الحرايب ما نميل 
باتجيك العلوم الشافية
هنا يجعل البردوني قصة اجتياح دقيانوس وفرار بعض القبائل إلى الكهوف أصلا لنشوء الزامل، بناء على رواية بعض المعمرين.