علي نعمان المقطري / لا ميديا -

معارك الشعوب من أجل الحرية والعدالة وضد الطغيان والاستبداد
 إن مسيرة الحرية الشعبية قد ارتبطت بأهداف ومبادئ وأشكال حكم وشعارات جديدة حددت هوية الشعوب 
وأحرارها وآمالها الجديدة. وكانت الثورات الشعبية العنيفة هي الطريق الوحيد المتاح أمامها للتحرر والانعتاق من ربقات الاستبداد والإقطاع 
والاستغلال والإذلال الاجتماعي السياسي والروحي. وفي طليعة تلك الأهداف والأنظمة التحررية الجديدة والشعارات والمبادئ كانت الجمهورية والديمقراطية وحكم الشعب والعدالة الاجتماعية والإنسانية والأخوة والمساواة والتقدم وحقوق الإنسان البشري الشامل.

ويجب الاعتراف الآن بأن تلك المبادئ والشعارات والأهداف النبيلة لم تكن كلها على مستوى صدقية واحدة، ولم تكن تعني المفهوم نفسه عند كل الطبقات المشاركة في الثورة الشعبية التي كانت شكلا جامحا للصراع بين الطبقات المجتمعية التي كانت فوق والتي كانت تحت وتحت التحت في السلم الاعتباري الاجتماعي.
نعم، كل طبقة تفسر المفهوم والهدف المشترك وحدوده حسب ظروفها وواقعها وتناسبيتها ومصيرها في ظله وإرادتها وأيديولوجيتها وماضيها وخبراتها وتجاربها وعلاقاتها الاجتماعية. فالأهداف قد تتوحد في كل مرحلة، ولكن المفاهيم ومعانيها ومفرداتها سوف تختلف عند انتهاء المرحلة وبداية مرحلة جديدة، لكنها تتفق على أهداف كبرى هي إسقاط النظام القديم بكل الأشكال والصور والأساليب الممكنة حسب ظروف وتصورات وقدرات كل طبقة.
أما بعد سقوط النظام القديم فإن المرحلة الجديدة تبتدئ بالخلافات حول برنامج المرحلة ومهامها التالية التي لا بد أن تتفارق الطرق والاتجاهات والأهداف حولها. والسياسيون المحترفون المحنكون يدركون تفاصيل ذلك ويكيفون تكتيكاتهم معه، ومع ألا تثار الخلافات قبل الأوان الملائم والمناسب، ورب حركة مشتركة فشلت وأصابها الإخفاق لأن أطرافها تنازعوا الأمور المؤجلة قبل أوانها وقبل الوقت المناسب للحديث حولها.
وفي الثورات الوطنية الشعبية العامة هناك قواعد عامة يقتضي التحالف الالتزام بها شريطة النجاح المشترك للمتحالفين، فبدون ذلك لا يمكن لأي طرف أن ينجح منفردا، لأنه يكون أضعف من أن يتحمل أعباء النجاح المنفرد، فليس أمامه سوى أن يتحالف بإخلاص مع الحليف وإن كان سيصبح غدا عدوا، وهو موقف مر أشار إليه المتنبي بقوله "ما من صداقته بد"، أي أنه لا بد من الإخلاص في التحالف مع عدو الغد ما دامت الضرورة والمصلحة تقتضي اليوم الصداقة والتعاون.
وفي العصر الحديث، عصر الثورات الديمقراطية البرجوازية التي تقودها البرجوازية، تتحالف مع الفلاحين والعمال كطبقات شعبية حليفة، لها جميعا المصلحة نفسها في التحالف وتأجيل العداوة والخلافات إلى ما بعد إسقاط النظام القديم.
ولأن البرجوازية هي التي تقود وتسيطر على الثورة فهي التي تبادر إلى نقض العهود وخيانة الحلفاء مباشرة بعد إسقاط النظام القديم، وتبادر إلى استخدام السلاح والقوة ضدهما، وبهذا تكون هي التي تفجر الحرب الأهلية ضد الشعب الثائر الذي حملها إلى السلطة بإسقاطه النظام بقواته وجماهيره وأبنائه، وهذا قانون اجتماعي ثابت من أهم قوانين وجدليات الثورات البرجوازية الديمقراطية والوطنية الشعبية في كل العصور والأمصار، لذلك تستعد البروليتاريا الشعبية والفلاحون المتحالون مع البرجوازية الكبرى لمثل تلك اللحظة باستباقها أو إجهاضها عند الشروع بها فورا، وعدم التردد في خوض الكفاح العنيف الحاسم ضدها، لأن لتردد ليس له من عاقبة سوى تنظيم المذابح بالجملة لأبناء الشعب الثائر من قبل جلادي الرأسمالية المتوحشة التي تكشف عن وجه كالح وجبار وبطاش وإجرامي لا يرحم أحدا، والحل الوحيد لمنع الهزيمة الوطنية هو المبادرة إلى إزاحة البرجوازية عن قيادة الثورة والبلاد فور انتهاء المرحلة الأولى من الثورة وبداية المرحلة التالية.
ذلك قانون موضوعي ضروري ناتج من كون البرجوازية بعد الوصول إلى الحكم لا تعود لها مصلحة ولا رغبة ولا استعداد لمواصلة تحرير الطبقات الحليفة، ولا الحياد بين الشعب وجلاديه ومستغليه، بل وهي التي استولت على ثروات الطبقة القديمة وسلطتها وما كان تحت يديها من أموال وثروات الشعب الكادح، فإنها وقد أسكرتها الأطماع والجشع تقرر أن تقتسمها مع الإقطاع القديم، وأن يتحالفا ضد الشعب وطبقاته المظلومة، وهذا ما حدث في كل الثورات البرجوازية الديمقراطية السابقة، والمثل الشعبي اليمني: "أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب" يلخص الأمر والفكرة ويبسطهما أفضل تبسيط، كما يلخص طبيعة العلاقات بين الطبقات عشية الثورة، فهناك طبقة عليا تحكم ويجب إسقاطها من الحكم، وهناك تحالف يقوم من عدة طبقات متناقضة المصالح مستقبلا وواقعا، ولكنها مستعدة لتأجيل نزاعاتها البينية ما دامت الطبقة الغريبة عنها تسيطر عليها جميعا وتستفيد من النزاعات البينية بينها. وبعد إسقاط الغريب أو الغازي أو الإجرامي الجائر عليها جميعها فإنها يمكنها العودة إلى المعركة بينها.
يقولون في النظريات السياسية إن هناك نوعين من التناقضات: رئيسية وثانوية، فما دام الخصم الثالث قائما ومسيطرا تصبح التناقضات البينية ثانوية وليست رئيسية، لأن الأطراف المتحالفة المقهورة لا مصلحة لأي منها في إثارة النزاعات مع أي منها ما دام العدو الرئيسي مسيطرا على النظام والسلطة ويستهدف الجميع.
ولكن التحالف قد لا يستمر طويلا؛ إذ إن أطرافه لا تدرك ما يخطط لها فتفاجأ بالضربات تنهال عليها من كل جانب من أحد أطراف التحالف نفسه، أي البرجوازية التي تكون عادة أكثر الأطراف إدراكا ووعيا لمصالحها وإمساكها بعصا المبادرة بيديها. وهذا هو أهم دروس الثوار في ميدان التحالفات الاضطرارية، فالضرورة تفرض التحالفات المؤقتة فرضا ولا مناص منها، والمهم هو اليقظة من غدر الحلفاء القدامى والجدد. الثقة جيدة، لكن الحذر واليقظة أوجب وأحزم.

الثورة المركبة
إن الثورة معركة ثنائية الأبعاد مزدوجة الاتجاهات وفي آن واحد، فهي ضد الاستبداد والطغيان القديم، وهي معركة ضد الفساد الثوري الذاتي بين الثوار والطبقات الثائرة المتحالفة في وقت واحد، فهي لا تعرف الثبات المطلق والجمود والتوقف، بل الاستمرارية، قانونها الرئيسي صراع تناحري لا يقبل التسويات وأنصاف الحلول، فإما أن تنتصر أو تموت مؤقتا، تسقط أمام أعدائها. وأعداء الثورة وأصدقاؤها غير ثابتين، فهم كالقطار المتحرك، يصعد إليه كثيرون وينزل منه كثيرون، دون توقف عبر المحطات القادمة، فالثورات الشعبية الوطنية الكبرى تشترك فيها طبقات وفئات عديدة مختلفة الغايات والمصالح والأهداف.
إن الصراع بين هذه الطبقات حتمي بعد كل مرحلة من مراحل التاريخ، لأن ما كان قد تحقق في المرحلة الأولى أفاد طبقة واحدة من التحالف، وهي تلك التي أمسكت بالسلطة والحكم، وكانت جاهزة لذلك الاستحقاق، وعندها تتحول إلى قوة معادية لاستمرار الثورة وبقائها، وتنعزل عن كتلة الشعب المقهور الذي يريد استكمال الثورة لتحرير نفسه ومنحها أهدافا جديدة أكثر وضوحا وجذرية. والطبقة التي كانت قد قادت الثورة في المرحلة السابقة وورثت الثروة والسلطة عن النظام القديم تتحول لاحقا إلى رجعية ومحافظة وتسلطية وقمعية، وملكية أكثر من الملك نفسه، وديكتاتورية وأكثر بشاعة من الاستبداد والطغيان القديم، فتثير ضدها أسباب النقمة والثورة الجديدة من قبل الشعب الكادح الذي ما زال لم يتحرر بعد، فقد انتقل من استغلال الطبقات القديمة إلى استغلال الطبقة الجديدة التي كانت ثورية ثم انقلبت بفعل السلطة والثروة والقوة والمكانة والسيادة، انقلبت على الثورة وعلى القسم الثوري الجديد، لأنها تحولت إلى موقع الظالم والمستغل الجديد والجلاد الجديد، ذلك هو جدل (ديالكتيك) الثورة ومنطقها العام وسننها الداخلية وقانونها الأسمى الذي يتكرر في جميع الثورات من حيث الجوهر مع اختلاف الأشكال والخصوصيات والملابسات التاريخية.
وقد صور بعض الكتاب المعادين للثورة أن الثورات تأتي من مؤامرات يهودية ماسونية وأجنبية واستعمارية ولا حقيقة للشعب فيها، وهذا غير حقيقي بالمطلق. صحيح أن الثورات تتعرض لمؤامرات ومحاولات اختراق، لكن لا يمكن تحريك الملايين الساخطين على الحكم نتيجة مؤامرة تعدها عصابة استعمارية مخفية التوجه، فالعصابات يمكنها أن تدبر انقلابات داخلية بدعم وتخطيط خارجيين وفي ظروف معينة، ربما يحدث هذا وقد حدث في كثير من البلدان، وقد تصنع بعض أشباه ثورات مزيفة ملونة، لكنها سرعان ما تنكشف.

تستهدف الثورات الشعبية الكبرى أول ما تستهدف أنظمة القهر والظلم الإنسانيين، ويصعب تقييد حركتها 
ومبادراتها واندفاعاتها التي تمليها عليها طاقاتها وأهدافها ومصالحها. وقد تستعين بعض الطبقات والقوى خلال ثوراتها ببعض 
القوى الخارجية والداخلية التآمرية، التي تأمل إيقاف الثورة وخيانتها، لكنها قد تعود لتتآمر على الثورة في مرحلتها الجديدة. 
قد تكشف وتفشل وتسقط، وقد تنجح أحيانا وتحقق انقلابا داخل الثورة وتحرف اتجاهاتها. لكن الثورات الحقيقية 
تظل مشتعلة بأشكال مختلفة ولآماد طويلة، فبعد كل نكسة تتعرض لها تعود مجددا بعد فترة من الزمن تطول أو تقصر، لكننا نتكلم الآن 
عن الثورات الناضجة بقيادتها الواعية وطلائعها ونخبها وقواعدها الشعبية وحاضنتها الجماهيرية.
لا يتصور أحد أن الثورة أمر يمكن إطلاقه فجأة في غفلة من الزمن والرقباء. إنها عملية مستمرة طويلة الإعداد والتكامل، بطيئة النمو والتطور والصيرورة، ولا تخضع لأوامر عصبة أو جماعات صغيرة وغريبة عنها وعن حاضنتها وطلائعها المعروفة المشهود لها بالنزاهة والوطنية والإخلاص والاقتدار والحنكة والقرابة الاجتماعية والأهلية الفكرية والسياسية، وحتى الانقلابات لا يمكن سلقها على عجالة إلا في الأفلام الهوليوودية لا في الواقع.
إن الثورات الشعبية الحقيقية لها أسبابها ومشروعياتها الوطنية الداخلية والتاريخية، مهما حاولت القوى الأجنبية السيطرة عليها والتلاعب بها، فمصير ذلك الانكشاف والوضوح.
وتعرف الشعوب كم هي الثورات مكلفة، من تضحيات ومعاناة، وهي لا تلجأ إليها إلا مكرهة وكآخر الخيارات اليائسة التي لم يعد أمامها سواها حين يصبح الأمر مسألة حياة أو موت ووجود، وحين يصبح استمراراً للحكم السابق، يعني موت وفناء الأمة الكادحة، وحين تصبح سياساته وممارساته على الأرض ثقيلة الوطأة عليها، وحين يصل القهر والقمع إلى مستويات لا يمكن احتمالها.
ويستثار الغضب الشعبي إلى أقصى مستوياته ومناسيبه نتيجة أفعال النظام وقواته وموظفيه وحاشيته الإجرامية وجلاديه، وحين يكشف القمع والقهر عن طبيعة النظام وحقيقته وعن وحشيته، ويمزق أوراق التوت التي كانت تغطي عوراته، حينها يصبح الانتفاض ضرورة تدفع إليها غرائز الحياة نفسها دفعا يفوق بقوته كل محاولات الإحجام والتردد وتطويل الحسابات ومقارنتها وفحصها وإعادة الحساب مجددا.

عقل الثورة وموازينها الجديدة
يظهر عقل جديد به توزن الأمور والمواقف والسياسات والتكتيكات. وتنتكس الثورات عندما يحاول قادتها الحكم على الأمور بالعقل القديم نفسه، عقل عصر السلم الأهلي الرتيب الهادي.
ويقال في الموروث الإسلامي العربي السياسي: «ذلك أمر كان أمس، وهذا اليوم أمر آخر له حكم جديد». وبغض النظر عن الاستخدام الانتهازي للقاعدة العامة إلا أنها واقع يحكم علاقات القوى في الجماعات البشرية، فما دامت توفرت القوى الكافية لدى قوة معينة أو تحالف معين فإنه يستطيع التنكر للقاعدة السابقة الناظمة لعلاقات التحالف الأوسع. وكل من له مصلحة جديدة ضد الحلف القديم يجب أن تتوقع منه الخروج عما تم أمس وأُبرم. وليس القصد هنا التسليم، وإنما الحذر والاستباق والاستعداد وإبقاء الخصم والصديق تحت الرقابة طوال الوقت حتى لا يؤتى المرء من حيث لا يتوقع.

مسيرة الآلام
طريق الحرية والاستقلال والانعتاق لا تتحقق بسهولة ويسر، فهي ليست تمراً يؤكل، ولكنها أقرب إلى الجمر وإلى لعق الصبر المر والعلقم، هي مسيرة طويلة مليئة بالآلام والتضحيات والمعاناة والنكسات والنكبات والانتصارات، وقد استغرقت قرونا من التطورات البطيئة والتراكمات والإضافات التاريخية والترقي في وعي الناس ووسائل عيشهم وعلاقاتهم وشروط حياتهم وعلاقاتهم المتشابكة المتداخلة. فالثورات لا تنشأ في أيام انفجارها ولا في عشاياها الأخيرة، وحين لا تكون تلك التراكمات قد توفرت وأدت إلى مفاعيلها ونتائجها وتداعياتها في المجتمع فلا يمكن القيام بثورة اجتماعية حقيقية، لكن يمكن الاقتراب منها بخطوات إصلاحية أو تبدلات سياسية تدريجية.

النهضات تسبق الثورات وتمهد لها
عندما نشأت مجالس التمثيل البلدية والمجلس الاستشاري المركزي لمساعدة الملك الفرنسي لويس السادس عشر نهاية القرن الثامن عشر في توفير الضرائب التي يحتاجها الملك وزوجته وحاشيته والحكم وإدارته وأجهزته، كانت قد سبقتها نهضة الملك لويس الرابع عشر، الملك المطلق لفرنسا وباني جيشها الكبير وموسع أراضيها، وموحدها في دولة قوية مركزية ومعها نهضة شاملة في الوعي والتعليم والثقافة والأدب والفكر والمشاركة الشعبية المحدودة والإدارة والاقتصاد والتجارة والفلسفة والتنوير الإنساني والعقلانية والحداثة وانفصال الدولة القومية فعليا عن التبعية للكنيسة المركزية الرومانية ومطامعها الإقطاعية وشموليتها الاستبداية. وخلال القرنين السابقين للثورة الكبرى حدثت تطورات كبيرة في نهايتها وفرت كل الشروط والظروف للثورة الأكبر.
لقد جرى ما يشبه الثورات الباردة من الأعلى، ثورات تدريجية، من نتائجها وعواقبها القضاء على هيمنة الطبقة الارستقراطية القديمة وعلاقاتها الزراعية السائدة، وظهور اقتصاد جديد وطبقات ناشطة وعلاقات جديدة تظهر منكمون وتكبر وتضاف مع العلاقات الأقدم منها وفي تلافيفها وتعرجاتها، ومعها ظهرت الحاجة للمجالس الاستشارية الشعبية والطبقية، والحاجة إلى الأموال الضخمة التي تسيطر عليها البرجوازية لتمويل مشروعات الإصلاح العام والخاص للحكم والملك وتوظيف خبرات البرجوازية الإدارية والعسكرية والمالية. وكان هناك حاجة قومية للملك القوي، وهي الاستعانة بالبرجوازية ضد تجزئة الإمارات الإقطاعية، ومن أجل بناء جيش قوي، ومدته البرجوازية بأفضل خبراتها وأبنائها وبيروقراطيتها ومحاسبيها ومنظميها، ولذلك كافأها الملك بإشراكها في المجالس الاستشارية التي مثلت الطبقات الثلاث، وعندما احتاج لويس الأخير إلى الأموال والضرائب اضطر إلى دعوة المجالس للاجتماعات بعد انقطاع دام فترة طويلة.
فقد كانت البرجوازية تتوفر على أموال ضخمة من نشاطها التجاري الدولي الذي اتسع بفضل النهضة، وبالتالي فقد أدرك مدى قوتها وطاقاتها على فرض التغيير المطلوب، وفهمت مدى حاجة الملك والحكم إلى الأموال والضرائب والدعم بعد أن أصبحت أجهزة الدولة كبيرة وبحاجة دوما إلى نفقات جديدة، وخاصة بعد أن دخلت في معارك المنافسة مع الجارة البريطانية في تمويل الحرب التحررية الأمريكية ضد الإنجليز وإرسال قواتها إلى هناك لدعم الأمريكيين في الثورة، ومن ثم أدركت أنها قادرة على مساومة الملك حول الإصلاحات الدستورية والقانونية، مع وجود تمردات شعبية في الشارع والقرى والمقاطعات نتيجة للأزمة العامة في البلاد.
وعندما افتتحت المجالس أعمالها حسب التمثيل الطبقي، فإن عصرا جديدا كان يتسرب عبر الشراكة الطبقية في السلطة، فالطبقة الثالثة كانت تصعد والشعب حولها يلتف في كل الأقاليم والمركز وينتخب ممثلي من أبنائها، وتلك كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقال، فقد طالب عموم المكلفين من كل الطبقات بأنه لا ضريبة جديدة بدون تمثيل ومشاركة في التشريع، واستجاب الملك أمام الضغط المالي الذي يواجهه هو وحكومته وشكل مجلس الاستشارات لتمثيل جميع طبقات الأمة الفرنسية، ولكنه تحكم بنسبة التمثيل بينها لصالح طبقتي نبلاء الإقطاع والأكليروس الديني، حيث أعطى من المقاعد ما نسبته الثلث للشعب وثلثين لطبقتي الأكليروس والنبلاء الفرسان.

إصلاح بسيط تداعى له أركان النظام القديم
وهكذا سيطر الملك على المجلس ثم فرض على كل طبقة أن تجتمع لوحدها وبمفردها في قاعة خاصة بها في قصر الحكم، وبهذا ضمن عدم تأثير الصوت الشعبي وضياعه أمام هيمنة الأصوات الإقطاعية النبيلة (الثلثين)، بحيث تصب دوما في خانة الملك وحاشيته النافذة، ولكن الأوضاع العامة لفرنسا وأوروبا كانت غارقة في تناقضات متقادمة لا حل لها إلا بتجاوز النظام القديم ووضع حد له وإصلاحه أو إزالته نهائيا.

كان الرأسماليون الإقطاعيون والنبلاء المهمشون عن الحكم والعقلانيون منهم والمفكرون والمثقفون الأحرار قد تكاثروا في العقود الأخيرة نتيجة لثورات الرأسمالية في العالم الغربي واحتجاجهم على عدم توريث الإخوة والأبناء من غير الابن البكر لكل نبيل وحصرها في الابن البكر، أي الملكية والإرث العائلي للأب، ثم اتجه الكثير منهم للبحث عن مصادر خاصة للثروة والمكانة تعوضهم عما فاتهم في ظل النظام الإقطاعي القديم المطلق والاستبدادي الذي أضحوا يتنكرون له ولم تعد لهم مصلحة في بقائه فتطلعوا إلى إزالته وإصلاحه، وتجاوبوا مع الدعوات الشعبية القادمة من العامة (الطبقة الثالثة) 
خلال الصراع بين الطبقة الثالثة والملك وطبقته، فانضم كثير منهم إلى العامة وإلى الطبقة الثالثة (الشعبية) أمثال الخطيب الكبير ميرابوا ونيركر، واشتركوا في اجتماعاتها وفي الثورة الدستورية السلمية التي جرت تدريجيا على شكل صراع إرادات في المجلس، وصراع قوة شعبية مسلحة في الشوارع بين العوام المسلحين والقوات الملكية السويسرية والنمساوية التي تحرس الملك ومحل ثقته.
واستخدم الرأسماليون طبقة العامة الثائرة كرافعة للارتفاع بهم إلى السلطة في مواجهة الملك والإقطاع لإقناع الملك وطبقته بقبول التشارك بينهم في الحكم الجديد القائم على ملك دستوري يملك ولا يحكم، والبرلمان يشرع والحكومة المتشاركة تنفذ، ويتم الحفاظ على العرش على أن يكون عرشا مشتركا للإقطاع والرأسماليين كما في بريطانيا.
وكان الرأسماليون يريدون الاشتراك في السلطة مقابل أن يتخلوا عن الشعب وثورته والجمهورية الموعودة وسميت البرجوازية الكبرى بالملكية الدستورية لتتخادم مع الملك والإقطاع ضد الشعب، وإنهاء مرحلة الثورة وإعادة النظام والشرعية، وهذا الوضع استمر ثلاث سنوات من عمر الثورة قبل الانتقال إلى الجمهورية.
كانت الجمهورية طريقة عامية بسيطة شعبية أريد بها أن تعكس مصالح الشعب العامل الكادح البسيط وليس مصالح كبار الملاك وحدهم، ولذلك أدركت البرجوازية أن الجمهورية الحقيقية سوف تجردهم من نتاج صفقتهم مع الإقطاع والملك، ولذلك قاتلت الشعب بعنف وبلا رحمة، وأنزلت القوات والجيش والحرس الوطني لقمع الشعب وإطلاق الرصاص عليه وهو أعزل، بلا سلاح في يديه بعد، لكن الشعب العامي رد على القمع البرجوازي الدستوري بالانتقال إلى السلاح للدفاع عن ثورته ومواصلتها لاجتثاث الإقطاع من جذوره وإزالته وإزالة الملكية بعد ثبوت خيانة الملك للثورة والوطن وضبطه هاربا إلى جبهة العدو الأجنبي وإعادته إلى السجن ومحاكمته والقضاء عليه.
وأجرى الشعب انتخابات تمثيلية مباشرة أتت بممثلين عنه إلى الحكم الجمهوري الجديد الذي أعلنه في هبته الجديدة في العام 1792، بزعامة جورج دانتون، المؤسس للجمهورية وقائد الكوميون الشعبي والحرس الوطني حامي الوطن وقائد معاركه ضد الجيوش الأجنبية المعتدية وهازمها في الميادين، وواضع الدستور الجديد للجمهورية.
رفعت البرجوازية الشعبية المرتبطة بالجمهور العامي الشعبي الأوروبي، والفرنسي بشكل خاص، شعار «الحكم الشعبي الديمقراطي» بديلا للحكم الملكي الاستبدادي المطلق، وأرفقته بشعار الجمهورية الديمقراطية والشعبية والكومونية خلال صعود اليسار الفرنسي بقياده دانتون وحزبه الثوري الكوموني العامي المكون من الفئات الدنيا من فقراء باريس والأقاليم من المحرومين والأجراء والكادحين.
هل كانت الجمهورية الفرنسية جمهورية ثورية شعبية حقا؟!
نظريا كانت انعكاساً لأحلام وطموحات وتطلعات فقراء باريس وكادحيها، لكنها لم تصبح واقعا إلا لأسابيع، ثم خطفت بقوة المال والثراء والنفوذ الطبقي والبيروقراطية العسكرية والموظفين والمضللين الفكريين والمثقفين والمشعوذين الحداثيين الذين وعوا قضاياهم للتو وساروا خلف حزب دانتون الكوموني الذي استطاع تنظيمهم وقيادتهم في قوة كبيرة فعالة وحاسمة في السيطرة على إدارة بلدية باريس والأقاليم كقوة منفصلة عن البرجوازية الكبرى والوسطى التي تعاونت لإبقاء النظام الملكي بعد تزويده بدستور ديمقراطي يقسم السلطات بين البرجوازية والملك والإقطاع القديم، ولذلك فقد حاربت فكرة إزالة الملكية وإزاحة الملك بقوة تفوق القوة التي حاربت بها العهد الاستبدادي القديم وثارت عليه إلى حد أنها استخدمت الجيش الجمهوري البرجوازي التوجه، المشكل من أبناء العائلات الثرية والوسطى لقمع الكادحين وسحقهم بالنار عندما فكروا بالتجمع في ميدان دي مارس يطالبون بإعلان الجمهورية في فرنسا بعد مرور عامين على الثورة والملك مازال يمارس نفوذه بدعم مباشر من البرجوازيين في قيادة الثورة والمجلس الوطني الجديد وفي قيادة الجيش والحرس الوطني.
لقد استخدمت البرجوازية النار والدم في قمع المواطنين المستضعفين والجائعين الذين تجرؤوا على المطالبة السلمية بالجمهورية حسب الوعود القديمة للبرجوازية وزعمائها وكبار مفكريها ومنظريها وخطبائها المتغنين بالحرية والديمقراطية والحقوق الإنسانية وحرية الاعتقاد والدين والفكر والتعبير السلمي، وكان قد أجمع عليه الشعب والمجلس الوطني ووقع عليه الملك نفاقا ومناورة وهو ما زال ينتظر نجدته من الملوك الأجانب في الخارج.
كانت البرجوازية الفرنسية تطمح فقط إلى الحلول محل الأمراء الإقطاعيين في الحكم، ولم تكن صادقة في مبدأ الحكم الشعبي والحرية والديمقراطية الحقيقية والجمهورية الحقة، لكنها كانت قد عقدت عزمها استراتيجيا وهي تخطط للثورة المحدودة على أن تسقط الحكم الإقطاعي بقوة الشعب العامي الكادح المقهور، ثم بعدها تقوم بالالتفاف على الشعب وتوقف حركته الثورية، وإغراقه بالدم لإرعابه وإرهابه وقمع إرادته بعد أن تتصالح مع الإقطاع القديم كطبقة مالكة مستغلة للشعب وتضعه في جيبها كتابع لها، وأن تبرجزه وتعيد تقاسم الحكم، بحيث يكون للملك والإقطاع الأموال والثروات، وللبرجوازية الإدارة الحكومية، ويكون الملك يملك ولا يحكم، أي يمثل الطبقتين معا عبر البرلمان الذي يسيطر عليه أصحاب الأموال حسب الطريقة البريطانية، وهي الطريقة التي كانت في نظرها النموذج الأمثل لحكومة معتدلة توائم بين مصالح جميع المالكين الكبار والمتوسطين، لكنها لا تحسب مصالح وحقوق العوام، أي الشعب الاكبر والأوسع.
وخلال أعوام ثلاثة من الحكم البرجوازي للثورة الفرنسية ومساكنة الملك الدستوري، كما سمته، عاد كل شيء إلى حاله بالنسبة للفقراء والعوام، وهم الذين ضحوا من أجل الثورة بأرواحهم وأبنائهم، وهم الذين أجبروا الملك على الخضوع للإرادة العامة بعد أن هاجموا الباستيل الرهيب، وسيطروا على القصور الملكية والحكومية بدون رغبة من البرجوازية المسيطرة على القيادة، قيادة الثورة أو قيادة البرلمان. كما أنهم من أعاد الملك وعائلته من الحدود وهم في طريقهم إلى هاربين نحو الخارج للإتيان بالجيوش الأجنبية لسحق باريس وثورتها في ظل تواطؤ البرجوازيين السياسيين والعسكريين الذين كانوا يريدون أن يتمكن الملك من الفرار ليعود إلى باريس بالجيوش الأجنبية بعد أن تم التفاهم مع الملك بهذا الشأن سرا، من خلف الثوار. وعندما طالب الشعب بحجز الملك المتآمر ومحاكمته على جرائمه حمته القوات البرجوازية بزعامة الجنرال لافييت، الذي كان يسمي نفسه «جنرال الثورة»، ووقف المجلس البرلماني يحمي شرعية الملك المتآمر وادعى أن الملك تعرض لخطف بغير إرادته، وأنه بريء مما يشاع حول خيانته مع الأجانب، رغم الوضوح التام لجريمته.
ما الذي كانت تريده البورجوازية الملكية بعد الثورة عليها؟!
كانت تريد شكلا معدلا من الملكية يخفي سيطرتها هي وحلفائها الجدد معا. هناك ملك صوري أمام الشعب، وهناك حكام فعليون هم الحكومات المتعاقبة للبرجوازيين الأثرياء، وهناك برلمان برجوازي في حقيقته لكنه يأتي عبر الصناديق لا عبر الصناديق المالية والانتخابية الشكلية، وبهذه الطريقة وحدها يمكن إجبار الشعب على قبول قيوده وأغلاله لقرون من الزمن دون أن يدرك الخدعة الكبرى التي تمارسها البرجوازية الإقطاعية الجديدة، ولا يدري كيف يحصل البرجوازيون على أصوات الشعب وأغلبيته، ويعجز عن المنافسة أمام كبار الملاك النافذين.