علي نعمان المقطري / لا ميديا -
من مصائب الثورة العربية القومية المصرية أنها وقعت تحت قيادة العسكر والضباط البيروقراطيين المنحدرين من الطبقات الغنية القديمة، وكانوا قد ورثوا الثقافة البريطانية والغربية وأيديولوجيتها، وتعلقوا بالأهداب الأمريكية لتحقيق الاستقلال عن بريطانيا العظمى المجسدة للاستعمار القديم، واتجهوا نحو الزعامة الأمريكية معتقدين أنها توزع هدايا الاستقلال مجانا على الشعوب المقهورة، وكانت تلك حقائق معروفة، ولكنهم استسهلوا طريق الاتكال على الأمريكي الطيب القلب الذي لم يكن له تاريخ استعماري، كما قال حكماؤهم وزعماؤهم، أو كما عبر عنها بعض ألمع صحافييهم ومفكريهم أمثال محمد حسنين هيكل ومصطفى وعلي أمين.
ومن أجل الوصول السريع إلى السلطة فقد جمع ناصر بين المتناقضات من الضباط في تنظيم واحد يعمل تحت قيادته، من أجل إيصال الضباط إلى الحكم ثم التخلص من جميع الاتجاهات الواعية في الدولة والسلطة والمجتمع بشتى الطرق والأساليب وبذريعة ظلت تتكرر باستمرار، وهي أنهم أهل حزبية ولهم طموحات سياسية وأفكار ونظريات مختلفة. ورغم الاعتراف بوطنيتهم وأنهم قدموا رؤوسهم على طريق الاستقلال لمصر فقد انتهى بهم المطاف إلى السجون أو إلى الإقامة الجبرية أو التوقف عن المشاركة في الشأن العام.
وخلال الخمسينيات ومطلع الستينيات كانت جميع الشخصيات القوية الفاعلة في الثورة أو الانقلاب قد أُبعدت، ما عدا قلة صغيرة من المقربين محل الثقة الخاصة والصداقة الحميمة.
ولم يأت العقد الثاني من عمر الثورة إلا وقد أُبعدت الغالبية القيادية من اتجاهات اليسار واليمين والوسط، أمثال خالد محيي الدين ويوسف صديق وزكريا محيي الدين وعبداللطيف البغدادي وكمال الدين حسين وحسين الشافعي، ولم يتبق سوى المشير عامر وأنور السادات وصلاح نصر وشمس بدران في السلطة، وكان هؤلاء قد أعدوا مصر للوقوع في هزيمة حزيران ونكستها وفقا لمخطط معد سلفاً تم الكشف عنه خلال محاكمات يونيو67، ولم يبق سوى السادات ليعينه ناصر في آخر أيامه نائبا له، فورث السادات البلاد وثورتها وسلطتها وشتتها شر تشتيت، فهل كان السادات مجهول النسب والتوجه؟! لا بل كان مكشوفا للجميع من زملائه وخاصة ناصر، فقد كان من جواسيس الألمان خلال الحرب الثانية، ثم كان من جواسيس الملك فاروق وأحد قتلته المحترفين في تنظيم الحرس الحديدي السري الذي كان عبره يقتل ويغتال أعداء الملك من المعارضين والوطنيين في مصر.
وكان السادات قد احتوته مخابرات القصر بواسطة الفتاة الشقراء جيهان التي زوجه إياها رئيس تنظيم الحرس الحديدي ليضمن إخلاصه لهم، فقد كانت واحدة من وصيفات وخدم الملكة والملك وتنحدر من أم مالطية وأب من ضباط البوليس البريطاني (كما ورد في كتاب لهيكل مستشاره ومستشار عبدالناصر من قبل). وكان السادات غائبا يوم الثورة ولم يصل إلا صباح الانقلاب بعد أن أُنجزت كافة التحركات وسيطر الضباط على السلطة بشكل كامل، فلم يكن له دور يذكر سوى أن يلقي بيان الثورة من إذاعة القاهرة، وقد أُخضع للتحقيق صباح يوم الثورة لوجود شك في تاريخ علاقاته بالحرس الحديدي وبالملك وحول مصدر تسريب المعلومات للمخابرات بموعد وبقرار القيام بالانقلاب. وقد تبناه ناصر ثم المشير عامر كواحد من رجالات المشير حتى سقط المشير في يونيو فسارع إلى تبديل ولائه بسرعه لناصر وأحسن التمثيل والتملق لناصر انتظارا للقادم.
وكان قد استقطب وجند للمخابرات الأمريكية والسعودية منذ العام 56، حسب ما نشرته صحيفة "الواشنطن بوست" الأمريكية، وأكدته من جهة أخرى الوثائق المسربة عن الرئاسة الأمريكية في عهد جيمي كارتر، وكذلك الباحث الأمريكي "وود وورد" صاحب كتاب "الحجاب الشهير"، وكذلك محمد حسنين هيكل بعد أن اختلفا بعد حرب أكتوبر 73، وقد ألف هيكل كتابا خاصا عن السادات سماه "خريف الغضب" بعد اغتياله في 6 أكتوبر 1981 وفضح فيه السادات وعمالته للمخابرات الأمريكية والسعودية وأدان أسلوب إدارته لحرب أكتوبر 73، وأنه كان قد كشف نوايا الجيش المصري للأمريكيين ومن ثم لـ"إسرائيل" حين بعث مساء يوم 6 أكتوبر 73 برقية إلى كسينجر يطمئنه فيها عن عدم استعداد مصر للتقدم بعيداً في سيناء أكثر من 10 كيلومترات ثم يتوقف، وأنها حرب تحريك سياسية لا حرب تحرير شاملة، وأنه بذلك مكن "إسرائيل" من أن تحشد كل قواتها باتجاه الجولان وأن تتفرغ لسورية التي بقيت وحدها في المعركة خلال الأيام الأولى للحرب، ثم كيف أنه فتح ثغرة الدفرسوار للغزاة ورفض إغلاقها وهي مازالت في بداياتها، حين ادعى أنها مجرد سبع دبابات فقط لا خطر منها إطلاقا ثم ظهر بعد ذلك أنها وصلت إلى 700 دبابة تحتل غرب السويس كله وتحاصر الجيش الثالث من خلفه وتحاول اقتحام الإسماعيلية ومحاصرة الجيش الثاني وتهدد باقتحام القاهرة، وقد دفع بالفرق المدرعة المصرية، الاحتياطي الاستراتيجي غرب القناة، إلى الشرق نحو الممرات بعيدا في سيناء دون أن يكون معها أية حماية صاروخية من التهديد الجوي للعدو، مما مكن العدو من تدمير 300 دبابة في ساعات محدودة، وأن ترتد القوات مهزومة إلى حافة القناة الشرقية وتوقف هناك ورفض إعادتها إلى مواقعها السابقة غرب القناة لحمايتها من أي اختراق حسب الخطة الدفاعية المصرية الأصلية، وترك الغرب فارغاً من أي قوات مدرعة وبالتالي مكن العدو من مهاجمة القوة الصاروخية غرب القناة بسهولة،  وفتح المجال أمام القوات الجوية وطيران العدو لمهاجمة العمق المصري الذي أصبح بغير حماية صاروخية، وهذا ما أوضحته مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان القوات المصرية في أكتوبر 73، وأيضا الفريق محمد فوزي، وزير الدفاع والحربية الأسبق بعد يونيو 67.
ولكن لم يجب على السؤال: لماذا رغم ذلك أن عبدالناصر نقل إليه سلطاته وهو يعرف كل هذا عنه؟! ألم يجد شخصيات أخرى أفضل وأضمن بجانبه؟! أم أن السعودية ضغطت عليه لتعيينه نائبه الأول بمساعداتها المالية بعد يونيو 67، كما أشار بعض الكتاب إلى ذلك، ومنهم المناضل ناصر السعيد في كتابه "تاريخ آل سعود"؟!
إن البيروقراطية السياسية تصيب أيضاً المثقفين السياسيين الذين كانوا جزءاً من نظام ناصر، مثل هيكل نفسه، هذا الكاتب الكبير والقريب إلى عبدالناصر وصديقه وكاتب أدبياته وخطاباته ومحل أسراره والذي تنسب إليه الأفكار الناصرية المكتوبة من الميثاق الوطني إلى فلسفة الثورة إلى بيان مارس 68، إلى خطاب التنحي الشهير، ومستشار عبدالناصر الأثير وشريكه الفكري خلال مسيرته.
هذا الرجل كان أهم من دعم السادات في الوصول إلى الرئاسة بعد وفاة ناصر، وعندما رصدت علاقات السادات واتصالاته مع المخابرات الأمريكية و"إسرائيل"، واستلامه التعليمات والمهام من الأجهزة الأمريكية حول سياسات البلاد الداخلية والخارجية وطلب إليه ضرورة إبعاد قيادة الجيش غير الموالية للغرب وإلغاء الاتحاد الاشتراكي كتنظيم سياسي من بقايا الوطنية الناصرية وطرد الوجود السوفييتي ومحاربته في مصر وخارجها ووقف الاستعدادات للحرب مع "إسرائيل" كبادرة حسن نية، وعندما ظهر النزاع بين السادات وقيادة البلاد السياسية والعسكرية والأمنية، أي الاتحاد الاشتراكي العربي ولجنته العليا المركزية والمخابرات العسكرية التي كانت ترصد الاتصالات السرية التي تجري سرا بين السادات والأمريكيين و"الإسرائيليين" من خارج إطار البرنامج الوطني التحريري للبلاد، عندما ظهر هذا النزاع الذي يحدد مصير البلاد وقف هيكل مع السادات وقدم له مساعدات قيمة لم يحلم بها للتغلب على الطرف الوطني المقابل وإيداعه السجن والسير على طريق الخيانة للوطن، وكان كل ذلك مكشوفا له، ولكنه وقف إلى جانبه ومكنه من التغلب على الوطنيين المصريين من قيادة الجيش والسياسيين الوطنيين ورسم له الاتجاهات والمسارات التي يغلب فيها خصومه من إخوان عبدالناصر وأتباعه الأوفياء لميراثه الوطني والقومي وحول مصر إلى مستعمرة أمريكية صهيونية.
كيف يبرر هيكل سلوكه ذاك؟! أهي الخيانة أم الانتهازية الذاتية والتطلعات نحو المزيد من السلطة؟! أم هو الانحراف نحو مراضاة أمريكا والبحث لديها عن حلول عادلة للصراع مع "إسرائيل"، وكأنها ليست هي أمها وأباها وأصلها وفصلها وربيبتها ومحرضها وحاميها؟! إذا لم تكن الخيانة المباشرة فأقلها الانتهازية وفساد الأخلاق والقيم.
وكم هو مضحك هذا الهيكل عندما يقول إنه كان يجتهد معتقدا بأنه على صواب ولم يقصد السوء، وأنه لم يكن رجل سياسة ولا حرب ولا دولة وإنما هو صحفي فقط، كاتب يبحث عن المعلومة، ووفقا لما لديه من معلومات يكون موقفه وأفكاره، وقد يخطئ ويصيب أحيانا، وهو لا يلزم أحدا بآرائه ومواقفه! وتلك والله قمة الاستهبال والاستهتار بعقول الناس، والذنب في الحقيقة ذنب ذلك الرجل الذي مكنه من تلك المكانة العليا في النظام دون أن يلزمه بالمسؤولية مقابل ما يحصل عليه من امتيازات استراتيجية.
شغل محمد حسنين هيكل منصباً غير رسمي وغير معلن، وهو مستشار الأمن القومي لعبدالناصر ثم للسادات، وهذا باعترافه، ولم يكن يريد منصبا معلنا عنه رسميا حتى لا يحاسب بموجبه أمام الحكومة، وكانت هذ حيلة منه تنطوي على انتهازية وفساد لا حد له، ومثل هذا السلوك لا يمكن أن يحصل إلا في ظل رعاية أنظمة غير مسؤولة عما تفعله، ديكتاتورية وفردية إلى حد العبادة.

العقلية العكفية الباشوية
إن العقلية البيروقراطية الضباطية التافهة والضيقة الأفق التي تقوم على تعظيم الأفراد وتبجيلهم وتملقهم ونفاقهم لمناصبهم أولا هي التي هيمنت على علاقات ناصر مع ضباطه، وهي التي ضبطت إيقاع إدارته للحكم والسلطة ومواقفه من الناس العاطفية والشخصية، والصداقة المتبادلة هي التي تتغلب في نهاية المطاف، وعلى ماذا تقوم تلك الصداقة والعواطف؟! أم أنها كانت مجرد ذريعة للحفاظ على السلطة في الجيش عبرها واستخدام عامر كقبضة حديدية لإرهاب الطامحين في الحكم من زملاء قيادة الثورة وغيرهم؟!
ولذلك كان ناصر مستعدا لأن يتجاوز خطايا وانتهاكات زملائه إذا كانوا مقربين إليه ويجيدون منافقته، كالسادات وعامر وصلاح نصر وشمس بدران وحمزة البسيوني... والقائمة تطول. المهم هو أن يعبده الأتباع والتلاميذ ولو زورا وبهتانا، وليس مهما بعد ذلك ما الذي يجري من مصير لمصر وللعرب وللقضية العربية والقومية والتحررية، فقد كان مستعدا ليغض الطرف عن كل ممارساتهم وأخلاقياتهم وتصرفاتهم ما داموا مخلصين له شخصيا كما يتصور.
وقد وصل الأمر بهم أن حولوا المخابرات المصرية وأجهزتها إلى ماخور غاصب وبالإكراه لتجنيد الممثلات والفنانات الجميلات والفاتنات من شابات الجامعة والمجتمع لخدمة نزوات مدير المخابرات والمشير عامر وضباطه وقادته وتصويرهن في أوضاع مخلة ودفعهن للتجسس على الأشخاص في مصر وخارجها، ومراقبة تحركات ونشاطات كبار المسؤولين أنفسهم وإغوائهم والإيقاع بالمعارضين وتهديدهم، وكان هذا وجهاً واحداً من وجوه متعددة لفساد السلطة البيروقراطية المصرية في عهد حسب على الثورة وقيادتها للأسف. وقد أفاد الأديب المصري نجيب محفوظ في رواياته السياسية في تصوير بعض وقائع ذلك العهد. وكان الوجه الآخر يتمثل في قمع الحريات والرأي والتنظيم السياسي والتفكير الحر. والمعادل الموضوعي لتلك الانتهاكات الاجتماعية السياسية الوطنية كان إقامة هياكل خشبية مسندة من المنظمات الإسمية حاملة ألقاب الاشتراكية والقومية العربية والعدالة الاجتماعية ومشاركة العمال والفلاحين في مجالس الحكم والمؤسسات وفي الحكومة والبرلمان، وكلها كانت تسميات لا أساس حقيقياً لها في أرض الواقع، فالعامل الحقيقي ظل ضحية للمزورين من ضباط النظام وبيروقراطييه، أما الفلاح الحقيقي فقد ظل يعامل باحتقار من قبل الأفندية والضباط ورجال الحكومة، وقد ظلت الرأسمالية العسكرية الإدارية هي القوة المهيمنة على مصادر الثروة الجديدة في العهد الثوري الجديد. ويمكن ملاحظة حال الفلاحين والعمال المصريين الذي ترسخ بعد الثورة، فبعد أن كان الباشوات يعتدون على كرامة وشرف الفلاحين والفلاحات الفقراء وتحويلهن إلى مجرد بهائم يلبين شهواتهم وأبنائهم في عزبهم المترفة في الريف، فقد أقامت لهن الثورة مؤسسات ومراكز وحانات ليلية ومراقص ومواخير مهمتها تلبية نزوات أغنياء النظام الجديد وعصابات الحشيش والأفيون والتهريب والجريمة وضيوف الخليج المترفين حرصا على استدراج أموالهم النفطية، وإلى تلك المواخير دفع بآلاف الفلاحات والعاملات الفقيرات حيث تذبح كراماتهن برعاية وحماية وتسهيل من النظام الذي يرى في ذلك مصدراً للثروة القومية، كما قيل.
مع السبعينيات كان أعداد الراقصات يفوق عدة ملايين في ظل تزايد نشط للسكان، وفي ظل بطالة وفقر مدقع لملايين آخرين من الفقراء ينامون مع أسرهم في المقابر ولا يجدون السكن. لماذا هذا العبث والتهتك والإهانة الاجتماعية برعاية الحكومة المحسوبة على الشعب الغلبان والثورية والاشتراكية القومية؟! وأين الحمية الصعيدية التي نراها في الأفلام والروايات؟!
وكان مما يستفز الشعب والوطنيين والأصدقاء أن هذا الفساد والتبذل والتهتك والإهانة والمهانة تجري في ظل أمة تستعد لمعركة تحررية مع الصهيونية والاستعمار والرجعية. إن جزءاً كبيراً من انهيار الموقف العسكري المصري كان يعود إلى شعور بالغبن والحيف لدى الفلاح المجند الفقير، أنه لا يؤمن بصدقية قادته ولا بمصلحته المحققة في الدفاع عن النظام الغارق في العهر إلى عنقه.
فقد فر آلاف الجنود من ساحات المعركة في سيناء 67، قبل وصول العدو إليهم أو رؤيته، ولم تكن أوامر المشير عامر بالانسحاب الفوري وترك الأسلحة الثقيلة هناك والعودة بالسلاح الشخصي خلال ليلة واحدة إلا تغطية للموقف المنهار على الأرض.
كان الجيش المصري يصل إلى أضعاف قوة العدو ولا يمكن أن ينهار في أي مواجهة حقيقية مهما كانت أوضاع طيرانه، لو توفرت له الثقة بقيادته ومعداته وسلاحه واستشعار جديتها. وقد نشر هيكل ما يفيد أنه اطلع على مذكرات قادة "إسرائيل" الكبار الذين أداروا الحرب العدوانية على العرب أنهم لم يكونوا يخططون ولا ينوون احتلال سيناء بكاملها وإنما التوقف على شريط حدودي لا يزيد على 30 كيلومتراً عند الممرات الجبلية على مداخل سيناء فقط، ولكنهم فوجئوا بفرار الجنود المصريين وإخلاء سيناء بالكامل فطوروا خططهم لاستغلال الوضع وسارعوا إلى قطع الطرق على فرار القوات المتأخرة واستباقها إلى ضفة القناة واحتلالها باستخدام السلاح الجوي بدرجة رئيسية، وهذا يؤكد ما أشرنا إليه.
إن خلف تلك الممارسات يختفي الموروث الاجتماعي الثقافي للبلاد في ظل العصور السابقة التي ظلت ومازالت في الوجدان الاجتماعي للطبقات الحاكمة وأنسالها وأبنائها وأجيالها المتوالية على مصر منذ العهود المملوكية التركية العثمانية والغربية التي لم يتم الثورة عليها وتجاوزها بالنقد والهدم الفكري والثقافي، ومن أجل ثقافة جديدة وطنية شعبية تبنى وفقا لوجدان الشعب الحقيقي لا استبدال طبقة بطبقة أكثر فسادا وانحلالا، وهذا هو الفارق الحاسم بين الثورات الشعبية الحاسمة وبين الانقلابات العسكرية التي تجري من أعلى بواسطة بيروقراطية العسكر أو العكفة.

السم البيروقراطي الزعاف
لقد سممت البيروقراطية العسكرية المصرية كل المفاهيم والأفكار، وأفسدت العقول والأفهام والسياسات بتحويرها بما يتوافق مع أهدافها الخاصة ومناوراتها وعلاقاتها الإقليمية والدولية المتعارضة مع محتوى الثورة العربية واليمنية شمالا وجنوبا. 
ويكفي أن نعرف أن أهم الشخصيات التي أوكل إليها الإشراف على مجريات الثورة اليمنية كانت على علاقات حميمة سرية خاصة واستتباعية مع دول وأجهزة الاستعمار والرجعية العربية وتعمل ضد نظامها في الداخل والخارج منذ وقت مبكر، بعضها كالسادات تقول الوثائق الأمريكية إنه جند لخدمة المخابرات الأمريكية في العام 56، عبر المخابرات السعودية وعبر رشاد فرعون جاسوس أمريكا ومستشار الملك سعود وفيصل ومسؤول مخابراتهما، وكان يدفع له مليون دولار أجراً سنوياً عبره، وكان اللواء صلاح نصر والمشير عبدالحكيم عامر والفريق شمس بدران والفريق علي شفيق وغيرهم الذين كانوا أكثر من 50 قائدا عسكريا متآمرا قد اعترفوا في محاكماتهم بعد النكسة بصلاتهم الوثيقة وعمالتهم للأجهزة الأمريكية وتلقيهم الأموال من السفارة الأمريكية في القاهرة، وكان هؤلاء هم المشرفين على الثورة اليمنية في كافة مراحلها، وكان من نتائج ذلك أن الثورة اليمنية سلمت إلى من يريد الفتك بها في نهاية المطاف ضمن مخطط تخريبي طويل الأمد، وراحت الثورتان تترنحان تحت الضربات السرية والمعلنة التي تتلقاها من العدو في الخارج والداخل.
وقد تمكنت ثورة الجنوب بقياداتها الأصلية من التمرد على العبث البيروقراطي الخياني المسيطر ومواصلة مسارها الثوري التحرري اعتمادا على شعبها وجماهيرها ومنظماتها وقدرات قيادتها الذاتية وتحالفاتها القومية والعالمية وإنجازها أهداف التحرر الوطني والاستقلال الناجز والكامل وإخراج قوى الاستعمار والرجعية ذليلة مهانة من جنوب الوطن، وتحقيق الاستقلال والحرية والكرامة والوحدة، بينما عجزت قيادة الثورة في الشمال اليمني عن مقاومة التخريب البيروقراطي المصري العسكري والاستقلال عن قبضتيه الحديديتين ممثلة بالمشير عامر ورجاله والسادات ووكلائه ووكلاء السعودية والاستعمار، فأسلمت إلى أيدي الجلادين من العملاء والوكلاء للأجنبي، وأصبح اليمن تحت الهيمنة السعودية لنصف قرن، ثم أضحت تحت الاحتلال والتبعية والعدوان بفضل جهودهم، ومازلنا نناضل من أجل الاستقلال والحرية بعد عقود من الثورة المغدورة.
إن قصيري النظر مازالوا إلى اليوم لم يعترفوا ولم يدركوا أن السيطرة السعودية الإمبريالية على اليمن قد جرت عبر مناورات البيروقراطية المصرية أولاً، ومن خلف الستار، وعلنا فيما بعد، متذرعة بالنكسة التي صنعتها هي بخياناتها الموجهة والمخططة على مصر واليمن والجيش العربي.
والحقيقة لم تعد تحتاج إلى جهد لاكتشافها بعد كل ما نشر وظهر على الملأ من وثائق واعترافات وحقائق لا يرقى إليها الشك.
إن جزءا هاما من مشاكلنا نحن العرب هي عاطفيتنا وتعلقنا بالأفراد، دون تمحيص أو بحث أو أسئلة. وكثير منا غير مستعد أن يعيد النظر في كل ما آمن به من تصورات وأوهام وأفكار لا أساس لها في الواقع. وهذا ناتج عن التأثر بمصادر معلوماتية وتاريخية وسياسية غير بريئة، ولذلك مازال الكثيرون لم يتعلموا بعد من التجارب السابقة، ولم يحللوا أخطاءها ويستخلصوا دروسها مهما كانت قاسية، ولذلك يقعون في الفخاخ والفجوات والحفر التي ترسمها القوى الشريرة، وينقادون إلى خيارات ليست في الحقيقة خياراتهم الأصيلة المفترض أنها تطابق مصالح شعبهم وجماهيرهم وطبقاتهم الشعبية المقهورة التي جاؤوا منها، ولذلك نجدهم مازالوا يلوكون الأوهام القديمة نفسها القائلة بأن الاستعمار البريطاني هو من سلم الجنوب إلى أيدي الجبهة القومية برغبته واختياره، وأن اجتماعا عقد، كما تقول صحيفة "الثورة" الرسمية، في مقر قيادة القوات البريطانية، ضم قادة الجبهة القومية مع القادة البريطانيين واتفقوا فيه على محاربة "جماعة التحرير الأصنجية الباسندوية المكاوية"، وانضمام قيادة الجيش العميل إلى الجبهة القومية ويقاتل جبهة التحرير ويطاردها (راجع صحيفة "الثورة"، عدد 30 نوفمبر الماضي).
إنها أقوال عارية من الصحة، ومن أول نظرة يظهر فسادها، وهي مدسوسة كالسم في العسل في نهاية كلام طويل مناقض لكل ما قيل أخيراً في نهايته.
كان الزعيم عبدالناصر ونظامه وثورته هي التي أنتجت تلك الظاهرة البيروقراطية العسكرية، رغم كل ما أنجزه وحققه لمصر وللأمة العربية. ولكن ناصر أضحى تاريخا قابلا للنقد والتقييم الموضوعي، كأي شخصية تاريخية عظيمة بإيجابياتها وسلبياتها. ونحن اليمنيين الأحرار كنا ومازلنا أكثر الناس قربا من ناصر وتجربته الثورية، نتيجة تشابكات الحركة اليمنية التحررية والحركة القومية المصرية وقيادتها، ونتيجة أننا جعلنا الحركة المصرية القومية التحررية مثلنا الأعلى وقدوتنا المثلى، مؤمنين بأنها لا تخطئ الطريق أبدا، وأن الزعيم يدرك مختلف جوانب التحديات الماثلة والقادمة بشكل صحيح. ولكن الممارسة الميدانية الوطنية في الشمال والجنوب، والاحتكاك المستمر بالقيادة العسكرية المصرية التي تولت قيادة وتوجيه الحراك الوطني شمالا وجنوبا والإشراف المباشر على الأداء الحكومي والعسكري والسياسي وعلى الدولة بشكل عام، كان هذا مفهوما خلال الأشهر الأولى للثورة وإعادة البناء الوطني، لكنه أضحى قيدا ومشكلة للثورة اليمنية بعد أن استمر لسنوات حتى آخر يوم من الوجود العربي وكل شيء بأيدي القيادات العربية، بل إن مصير الجمهورية نفسه كان معرضا للنكسة، بل انتكس فعلا عبر المساومة عليه مع السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، وأدى إلى تمكين انقلاب نوفمبر67 الرجعي الذي وضع الجمهورية تحت الهيمنة الرجعية الداخلية والخارجية السعودية مقابل السماح لمصر بسحب قواتها من اليمن بأمان وبكاملها دفعة واحدة دون إعداد القوى الثورية للموقف القادم، وكان هذا في اتفاقية جدة 64 بين ناصر وفيصل.
تلك الاتفاقية رفضها الشعب والجيش اليمن وعبر عن موقفه ورفضه في المظاهرات التي حدثت في صنعاء وتعز والحديدة، والتي اعتبرت تلك الاتفاقيات تتم من خلف القيادة الوطنية الجمهورية بقيادة المشير السلال، وأنها تدعم انقلاب القوى الرجعية الداخلية التابعة للسعودية والغرب، والتي انخرطت في المساومة على رأس الثورة بالتفاهم مع القيادات المصرية العسكرية والسياسية والسعودية وأسيادها.
كان عبدالناصر مخلصا للثورة العربية حقيقة، ولكنه كان ضعيفا إزاء القوى المحيطة به، التي لا تؤمن أصلا بالثورة، وكانت ترى فيها فرصة لاستنزاف ناصر في اليمن لإفشاله وإسقاطه، فقد أصرت بداية على إرسال القوات المصرية بكامل ثقلها إلى اليمن والهيمنة على كل شؤون الحياة اليمنية وتكلفة الخزانة المصرية أموالا طائلة كنفقات عسكرية وإدارية وصلت إلى ملايين الجنيهات سنويا وتزداد باستمرار، وفجأة صار ناصر محاصرا بمطالبتها الملحة بضرورة إعادة الجيش العربي إلى مصر وبأي ثمن، وكان الثمن الذي أرادته السعودية وأمريكا وبريطانيا من ناصر لقاء السماح لقواته بالانسحاب بأمان من اليمن وتحمل تكاليف نقلها.
كان الثمن هو رأس الثورة اليمنية والجمهورية وترك الميدان فجأة بدون إعداد للموقف، وحجز القيادة الوطنية بعيدا في القاهرة، إرضاء للسعودية وحلفائها في الداخل، وتمكين انقلاب نوفمبر 67 الذي جرى في ظل رعاية الوجود العسكري المصري في آخر أيامه بعد أن أطلق ناصر المتآمرين المحجوزين في القاهرة ليعودوا إلى صنعاء استجابة للسعودية.
ما الذي أودى بعبدالناصر إلى تلك الوهدة من التراجع والانهيار في الموقف المبدئي القومي الثوري السابق الأصلي؟ ولماذا هذا التبدل المفاجئ؟
إنها ضغوط الميدان وتحدياته، لكن دعم الثورة لم يكن مشروطاً دوما عليه وعلى مصر وقواتها بعد إنجاز الثورة خلال السنوات الأولى وقيام لجيش اليمني وانبثاقه من بين معارك التحرير والبناء بحيث كان قادرا لو أتيحت له الفرصة على أن يتحمل مسؤولية بلده بنفسه ويحافظ عليه وعلى استقلاله بدون تنازلات للأعداء.
كان هذا هو طريق خيار السلال والقوى الوطنية الجمهورية اليسارية والقومية استنادا للقوى الاجتماعية الحديثة من المثقفين الثوريين والعسكريين الوطنيين والعمال والنقابات والشباب والطلاب والكوادر والقبائل الوطنية الشعبية والجيش الحديث وقطاعاته وإلى الحماس الشعبي الوطني والقومي لدى أغلبية الشعب وإلى قطاعات الاقتصاد الوطني الناهض والنامي وإلى دعم المعسكر التحرري العالمي، لكن هذا الدعم عورض مباشرة من جانب مصر إلا أن يكون عبرها هي فقط، وكان هذا خيارا وسطا مقبولا للطرفين يحافظ على الثورة ولا يحمل مصر أكثر مما تحتمل، ويسمح بالانسحاب المشرف لمصر من اليمن، لكن المصريين كان لهم خيار آخر، وهو خيار التراضي مع السعودي ـ الأمريكي ـ البريطاني بوضع ورقة اليمن للتفاوض من خلف أصحابها الحقيقيين وعلى حسابهم، ومعنى هذا أنهم قد وُضعوا وثورتهم على طاولة المساومات.

تدخل بيروقراطي مريع خانق
خنق الوحدة العربية النامية التي ضاقت بالفساد والاستبداد الإقطاعي العسكري ودفع الشعوب العربية إلى الكفر بالوحدة العربية في سورية والعراق والجزائر واليمن ومصر، خاصة وهي ترى أول تجربة وحدوية تواجه فساد العسكر المصريين وقلة عقولهم وهم يحكمون سورية بأشد الأساليب بطشا واستبدادا، وبوليسية طاغية لم يعرفوها حتى في زمن الاستعمار الفرنسي نفسه.
إن أسلوب التحكم والتدخل إلى الحد الأقصى في حياة الثورات العربية كان أسلوبا متبعا للقيادة المصرية البيروقراطية، وكانت تلك التدخلات هي السبب الرئيسي في إخفاق تلك الوحدات والتحالفات العربية العربية.
ففي سورية، عين ناصر نائباً عنه أولا عبدالحميد السراج، الضابط البوليسي الشهير، مدير المكتب الثاني، أي المخابرات في الحكومة السورية، وحكم سورية بيد من حديد، قمع الأحزاب القومية الوحدوية الوطنية وأصحاب الرأي والفكر من الوطنيين، وأذاب بعضهم بالأسيد الحامض وألقى بهم في المجاري، كما حدث مع الشهيد فرج الله الحلو، زعيم الحزب الاشتراكي العمالي وأحد الأحزاب الوطنية التحررية السورية في مواجهة الاستعمار والرجعية. ثم عين المشير عامر حاكما عسكريا على سورية بعد أن ضجت من جرائم السراج وسمته السلطان عبد الحميد، فجاء المشير عامر أكثر تفلتا وفسادا ممن سبقه، فقد غرق في مغامراته الخاصة هو ومكتبه وضباطه، حتى ضجت سورية كلها بالشكوى، وكان ناصر يفسر كل ما يصدر عن الناس هناك بأنه من مؤامرات أعداء الوحدة ولا يلتفت إليه، حتى تراكمت الأسباب وانتقلت الشكوى إلى الجيش السوري نفسه وتطورت إلى الانقلاب العسكري ضد الوحدة، وهو الانقلاب الذي خططت ودبرت له المخابرات الأمريكية والسعودية والأردنية مستغلة الأخطاء والفساد البيروقراطي الذي يمارسه رجال الحكم العسكري المصري وإحساس الضباط السوريين بالظلم والتمييز في الحقوق والامتيازات بالنسبة للضباط المصريين.
ومن غرائب الأقدار أن قادة الانقلاب كانوا هم مدير مكتب المشير عامر ومساعده الضابط العقيد عبدالكريم النحلاوي والعقيد حيدر الكزبري قائد قوات البادية السورية، الذين استغلوا وجودهم بحماية المشير ليجروا التغييرات والتنقلات العسكرية للقوات والضباط باسم المشير عامر وختمه ليهيئوا للانقلاب فرص النجاح، ولم يلتفت عامر إلى ما يجري حوله من مؤامرات إن لم يكن متواطئا بنفسه فيما جرى، وكان الشعب في مصر وسورية ينتظر التحقيق حول ما جرى ودور المشير عامر فيه، ولكن ناصر أوقف التحقيق وأغلق ملفاته حفاظا على الصديق القديم العزيز، ولذلك فقد أعفي من أية محاسبة على ما جرى.
وفي العراق انقلاب دموي بعثي بشع ضد قيادة الثورة العراقية دبرته المخابرات المصرية الأمريكية معا انطلاقا من القاعدة البريطانية في الكويت في العام 63، وهذا ما صرح به قائد حزب البعث الأقدم علي صالح السعدي في مذكراته، حين اعترف قائلا: "لقد جئنا إلى حكم العراق في شباط 63 على قطار أمريكي"،  وهو ما أكده مجددا صلاح نصر في مذكراته المنشورة قائلا: "إن المخابرات المصرية قد لعبت دورا كبيرا في الانقلاب المذكور، وقدمت دعما عسكريا وماليا ومنها 20 ألف قطعة سلاح رشاشات بور سعيد، سلحت بها مليشيات البعث التي قتلت بها أكثر من 20 ألفاً من خيرة الشباب المدني العراقي من أنصار الثورة العراقية وقيادتها المغدورة".
إن تدخلات القيادة المصرية البيروقراطية في الثورات العربية كانت هي السبب الرئيسي في إخفاق تلك الثورات والتحالفات العربية.
وقد اتضحت معها طبيعة العلاقات التحالفية التي تقيمها البيروقراطية المصرية العسكرية مع المخابرات الأمريكية البريطانية الغربية ضد القوى الثورية العربية التي لا تنصاع لإرادات البيروقراطية القومجية العجيبة التي جسدها أمثال المشير عامر والسادات وصلاح نصر وعلي شفيق وشمس بدران.
كان العراق بعد ثورته المباركة قد عمل على استعادة أراضيه المغتصبة الواقعة تحت السيطرة البريطانية الكويتية، حيث كانت بريطانيا قد اغتصبت منطقة الكويت من إقليم البصرة العراقية خلال استعمارها للبلاد، للسيطرة عبر الأسرة العميلة على النفط الضخم المتوفر فيها، وأقامت عليها أسرة حاكمة تابعة، وكان من الطبيعي أن يبادر العراق إلى استعادة الكويت إلى قوام الدولة العراقية، لكن البيروقراطية المصرية دعمت الانفصال ووفرت له الاعتراف، نكاية بقيادة الثورة العراقية، وهي مستعدة لاتهام الوطنيين بالرجعية والعمالة إذا اختلفوا معها ولو جزئيا، ومستعدة لأن تشهد للعملاء والرجعيين بالصلاح والخير إذا اقتربوا منها ولو قليلا. 
كان الإمام أحمد (حاكم اليمن آنذاك) قد رفض الاعتراف بالكويت كدولة مستقلة منفصلة عن العراق الأم، وقال إن ذلك سابقة خطيرة تمزق العرب لصالح المستعمرين، فغدا يمكن لأي جزء أن ينفصل عن أصله ويطالب الاعتراف به كدولة مستقلة، وضرب مثلا شعبيا محليا، إذ نقل عنه قوله: "غدا سوف تطلب أي قبيلة في اليمن الاعتراف بها كدولة مستقلة، فما المانع عندها ما دام هناك سابقة؟!".
وفعلا كان الإمام أحمد قد رأى ببصيرته ما يخطط له الاستعماريون لتمزيق العرب إلى مزيد من الدويلات والإمارات والمشيخات، ولم تتأخر عملية فصل إمارات قطر والبحرين والإمارات عن أراض عربية، مثل اليمن وعمان وغيرهما، وهو ما يحقق أهداف الصهيونية والاستعمار، وهو ما أكدته الوثائق المكشوفة عن استراتيجيات الغرب تجاه العالم العربي والإسلامي.
وفي الجزائر أيضا كانت البيروقراطية المصرية حاضرة هناك، ويعود أحد أسباب النزاع بين قادة الثورة الجزائرية هو السماح للأجهزة المصرية بالتدخل وتحديد السياسات الداخلية والخارجية للجزائر بعد استقلالها، وهو أحد أسباب الانقلاب على القائد أحمد بن بيللا في العام 65، وإزاحته من موقع الرئاسة بعد أن اتهم بتبعيته لمصر وللسياسة المصرية من قبل زملائه.
وفي ليبيا أيضاً، فإن جزءاً من شطحات العقيد القذافي (رحمة الله عليه) كانت تعود إلى ما تلقاه من أستاذه الملهم ومن تلقينات وتعبئة فكرية سطحية جعلت عليه من السهل اختزال العالم وصراعاته في فكرته عن النظرية الثالثة والكتاب الأخضر، وفي تهويماته السياسية والاجتماعية والاستراتيجية والحيادية بين الشرق السوفييتي والغرب الأمريكي والتعاون مع فرنسا كأفضل خيار أمام ليبيا وثورتها، وكان هذا من نصائح ناصر وهيكل، والنتيجة هي ما رأيناه بأعيننا وأين أوصلته تلك السياسة في النهاية، احتلال ليبيا بقيادة فرنسا بالذات وخلفها أخواتها الطيبات المتحضرات.
تلك السياسة المتعالية على الشعب الليبي، الذي كان يسميه أحيانا في خطاباته المجنونة بـ"الجاهل" و"الغجر"، لم تكن إلا بفعل التقليد للتعالي البيروقراطي المأخوذ من المرجعية المصرية القومية، وبعد 40 عاما من الحكم ظلت ليبيا يمزقها الفقر والترف في الوقت ذاته، تستورد كل شيء من الخارج ولا تنتج شيئاً، كان يحلم بأن تكون له مكانة ناصر بين العرب والأفارقة، ولكنه مجرد حلم لم يصحُ منه إلا على وقع طائرات الناتو العدوانية وصرخات المليشيات الإرهابية القبلية والعشائرية القومية والسلفية الوهابية التي نمت في حضن أجهزة النظام نفسه.

اليمن والبيروقراطية العربية
وفي اليمن، كانت البيروقراطية العسكرية المصرية هي المهيمن على أفكار ومشاريع الجمهورية الجديدة وعلى كل قادتها الجدد، وهي التي تحدد مصائرهم وفقا لحساباتها السياسية القصيرة النظر والنفعية، والمفتقرة إلى أي مبدأ حقيقي، ولذلك نجني إلى الآن تلك المصائب التي بذرتها هي مع أول ثورة قومية حديثة رعتها على عينها وأسلوبها ومواصفاتها.
احتاجت اليمن نصف قرن لكي تستعيد عقلها وروحها بعد ضياع طويل جربت كل الأشكال والألوان، وسلمت ثورتها على طبق من ذهب إلى الإمبريالي، العدو التاريخي لليمن، مقابل دريهمات معدودات، وأضحت ضيعة قبيحة للإقطاع العبودي النفطي المتخم المتخلف البدائي، سلبت الأرض والكرامة والاستقلال والحرية.
لقد اعتقدنا لفترة طويلة أن مصر وبيروقراطيتها لا علاقة لها بالسيطرة السعودية على اليمن وتمكينها منها وهيمنتها عليها، غير أن ذلك كان أهم ما أنتجته الرعاية المصرية لليمن وثورتها التابعة للأسف، وهذا الكلام يثبته تاريخ السياسة المصرية في اليمن ووقائعها ومذكرات رجالها الميامين. 
لا نقرأ مذكرات الفريق كامل مرتجى، قائد القوات المصرية في اليمن وأحد أعمدة المشير عامر في اليمن وفي الجيش، بل نقرأ مذكرات الفريق صلاح نصر، مدير المخابرات المصرية وأحد المشرفين على البرنامج التنفيذي في اليمن، وكتابات الدكتور محمد الشهاري حول الثورة اليمنية والدور المصري فيها، وأيضا مذكرات الدكتور عبدالرحمن البيضاني، ومذكرات المشير السلال، أول رئيس للجمهورية وقائد الثورة، ومذكرات القاضي الإرياني، قائد انقلاب نوفمبر الرجعي 67.
الثورة هي حركة قواها ومكوناتها الثورية الفاعلة على الأرض وتقاس بما تنتجه هي، لا بما تقوله الرجعية والاستعمار، وتعيد تكراره أقلام الاستحمار منتشية وهي توجه الطعنات لثورتها واستقلالها في أعيادها القومية ومناسباتها، ولا انفصال بين تاريخ الثورة وتاريخ قواها وقيادتها ومنظماتها.
إن تاريخ الثورة هو تاريخ الزعماء والقيادات والمناضلين الثوريين الوطنيين والشعب الثائر الطليعي ومنظماته وأحزابه وجبهاته الثورية المناهضة للاستعمار دوما، المحاربة له ولسلاطينه وشيوخه وأمرائه وعملائه ووكلائه ووجهائه وسياسييه وموظفيه وجيشه وشرطته وبوليسه ومخابراته.
إن تاريخ الثورة وتاريخ الثوار والأحرار هو تاريخ واحد ولا ينفصل أبدا، لأن الثورة ليست في النهاية إلا تجسداً مكثفاً لنشاط رجالها وقادتها ونشطائها وجماهيرها، أي قيادتها ومنظماتها وأحزابها وزعمائها، وليس هناك ثورة ولن تكون ثورة دون زعمائها وقادتها ومنظماتها في طليعة الثورة على الإطلاق، فهي أهم ما في الثورة، وبدونها لا توجد ثورة، وليس هناك ثورة بذاتها تسير منفردة في شوارع المدن والقرى تتسلق الجبال وتقاتل المستعمر والغازي، كما لا يوجد جمهور ثائر يسير منفردا بدون قيادة ثورية وتنظيم ثوري واعٍ وهيكلية توفر ضمان استمرارية الثورة، وهذه أبسط البديهات حول الثورة أو الحركة، أي حركة اجتماعية كانت لا تنشأ بدون التنظيم الثوري والقيادة والفكرة والطليعة والجماعة الاجتماعية صاحبة القضية الرئيسية والمستفيدة الأولى من التحرر والاستقلال، الجماعة المسحوقة المقهورة من قبل المستعمر وحلفائه المحليين من الإقطاعيين والكومبرادوريين، الجماعة الثورية المنظمة حاملة لواء الثورة والتحرر إلى النهاية دون توقف أو تراجع أو نكوص، المستعدة للتضحية والاستبسال في سبيل الفوز بالحرية والاستقلال.
وإذا اختزلنا الفكرة فيمكن القول بأن الثورة أو الجمهور الثائر والثوري ما هو إلا نتاج نشاط مجموعة من الزعماء والقادة الأفذاذ والأبطال المتفانين، وبدونهم لا يمكن أن نرى ثورة طوال قرون، وهذا واضح من تجارب شعوبنا العربية والإسلامية. ومن المأساوي أن نرى أناسا بعد عقود من الاستقلال الوطني ينكرون دور التنظيم الوطني، ويعتقدون أن الثورات مجرد انقلابات خاطفة يمكن صناعتها بدون تنظيم طويل الأمد! وحتى هذا النوع السريع الخاطف من التغييرات يحتاج إلى تخطيط وإلى ترتيب وإلى عمل طويل تحضيري وإلى تجميع للقوى والأفراد ولقدرات، إنه فن معقد عميق الغور ليس في متناول كل الناس أو كل الضباط، بل هو موهبة وعلم في وقت واحد.
وكان الزعيم جمال عبدالناصر هو أول من قدر هذا الواقع وأنصف الجبهة القومية، رغم تآمر أجهزته البيروقراطية المخابراتية والعسكرية عليها وبيعها للاستعمار والرجعية السعودية من قبل عامر وعصاباته مقابل تمكينه من حكم المحروسة ولو كانت رمادا.
الجبهة القومية ظلت هي الجبهة الوحيدة في الميدان، وبدون عون سوى عون الشعب اليمني شمالا وجنوبا، تقاتل البريطانيين بين أعوام (1963 ـ 1966)، أي طوال أهم 3 سنوت حرب مع القوات البريطانية، حتى بانت الهزيمة على الإنجليز وقرروا الخروج من الجنوب نهاية 65.
الجبهة القومية هي التي حررت وسيطرت على جميع الأراضي اليمنية الجنوبية المحتلة وانتزعتها من بين أنياب ومخالب الأسد البريطاني بالدم والنار وبالتضحيات، والشعب اليمني سار خلف قيادتها هي وليس خلف الأصنج والباسندوة والمكاوي وعامر والسادات والجفري وغيرهم، بل سارت خلف قحطان الشعبي وفيصل الشعبي وعبدالفتاح وسالمين وعلي عنتر وصالح مصلح وشايع هادي والشنفرة وصالح عباد وسلطان والخامري وعشيش ومدرم وبدر وعبود ونجوى مكاوي وعايدة علي سعيد وجوهرة البهري وعلي عبدالعليم وسيف الضالعي وعلي وعوض الحامد...

الأسئلة المفتاحية
لماذا محاولة تدمير الجبهة القومية القائدة للكفاح الوطني التحرري؟ ولصالح من التدمير؟ وهل يخدم التحرر الوطني؟ ومن يقف خلفه؟
إن التأمل والتفكر في هذه الحقيقة التاريخية هو مفتاح صراع الجنوب الداخلي الخارجي، لأنه تم وفقا لمخطط خارجي ولصالح أجندات معادية للثورة والاستقلال الوطني الحقيقي، وهي قضايا كان العديد من الأتباع ليدركون كافة جوانبها، لكن القادة ضالعون كل الضلوع في جميع جوانبها، وبخاصة أنهم كانوا جزءاً من المنظومة الاستعمارية وجزءاً من حكومة المستعمر المعادية للثورة وللجبهة القومية وللتحرر الوطني، ومن لا يعرفهم جيداً فليرهم أخيراً أين مصائرهم؟ وأين وصلوا؟ وأين استقروا؟ وفي أي العواصم الرجعية الاستعمارية؟

بديل رجعي ومؤامرة استعمارية
لقد كان البديل في حقيقته مؤامرة على الثورة وعلى التحرر الوطني وامتدادا للمشروع البريطاني الرجعي السياسي السعودي، جبهة صورية فائضة عن الحاجة كانت ضارة بالوحدة وبالثورة، فلم تستطع تجنيد أكثر من بضع مئات من الناس جمعتهم جميعا في حي واحد في عدن هو حي المنصورة، وكل هذا وجميع الإمكانيات المالية والعسكرية قد وضعت تحت تصرفها بعد الانقلاب في يناير 66، وانتزاعهم في الأصل من تنظيم الجبهة القومية وجيش التحرير القومي عند الانقلاب الذي نظمته القيادة المصرية.
ومثل تلك المنظمة الصورية الديكورية، هل كان لها أن تنجز فعلا حرب الاستقلال والتحرير الوطني للجنوب؟
لن نفهم الأحداث إلا إذا ربطناها بسياقاتها الاستراتيجية العامة المجسدة في متغيرات العلاقات البينية بين عبدالناصر ونظامه وقيادة جيشه في اليمن ومصر وبين الملك فيصل وبينه وبين قيادة جيشه المتآمر عليه وعلى الثورة اليمنية والعربية عامة، والاحتياجات المحورية التي كانت تدفع سياسة مصر وعبدالناصر ومشاكله الداخلية وحاجته لإعادة الجيش المصري من اليمن مقابل التخلي عن مواصلة دعم الجمهوريين والتخلي عن دعم الجبهة القومية المتشددة في الجنوب لصالح منظمة سياسية معتدلة بديلة تشارك في عملية سياسية محلية من أصدقاء الإنجليز والسعودية وتسلم لها الاستقلال في النهاية وتعتمد هي الممثلة للشعب في الجنوب، وكان هذا محتوى اتفاقية جدة في العام 64، وفي العام 65، ضمن مؤتمرات خمر وسيطرة القوى الثالثة على الحكم في صنعاء بدعم المصريين وإبعاد الزعيم السلال إلى القاهرة وتسليم السلطة لخصوم الثورة ممثلين بالإرياني والعمري ونعمان والأحمر، مقابل ضمان انسحاب آمن للقوات المصرية من اليمن.
إن ألاعيب السياسة المصرية الانتهازية قد وضعت موضوع الجنوب والثورة والجبهة القومية الثورية والجمهوريين في صنعاء ورقة تفاوضية في مواجهة الملك فيصل والبريطانيين والغرب للخروج من ورطة اليمن بعد أن واجهت خسائر كبيرة في المعارك تحولت إلى وضع الدفاع الاستراتيجي حول صنعاء والحديدة وتعز أو المثلث الاستراتيجي.
والمعادلة المصرية للملك فيصل كانت هي "نعطيكم مطالبكم في الجنوب والشمال وتتركون قواتنا تخرج بدون اعتراض وتتحملون نفقات نقلها عبر البحر والجو"، ثم تطورت الشروط بعد يونيو 67 بإضافة المساعدة المالية السعودية السنوية واستمرارها، تلك هي جوهر القضية الجنوبية، فلم يكن إيجاد جبهة التحرير بهدف مواصلة القتال ضد الإنجليز وإنما إيقافه، والدليل أنها لم تحرك ساكنا تجاه الإنجليز إلا بشكل صوري وشعاراتي وإعلامي كلامي ولم تتواجد إلا في مدينة عدن وفي حي واحد من أحيائها وهو المنصورة، كما لم يتم تسليحها ولم يتم تجنيد جيش كامل لها للقتال ضد الإنجليز، وأي عاقل يفهم الغرض من وجودها وأي قصد له من مراجعة وفحص تلك الوقائع، ولكي يفهم العاقل معنى ما نطرحه هنا عليه أن يراجع حجم المعارك التي دارت مع الإنجليز خلال الثلاث سنوات الأولى من القتال بين 63 و66، ليعرف حول ماذا يدور الحديث فعلا؟ وهل منظمة صغيرة عدد أعضائها لا يزيدون عن بضع مئات من الأنصار بلا جيش تحرير شعبي حقيقي ولا قوات فدائيين خاصة مدربة وبلا إيمان وقناعة بالقتال والثورة يمكنها أن تواجه الإنجليز فعليا أو أن هناك تفاهماً آخر على عدم خوض قتال كبير ببن الطرفين؟
كما يجب أن يفهم أحداث الدمج القسري مع التحرير وكيف تسلمت القيادة العسكرية العليا والسياسية أيضا من قبل المصريين، وكيف أوقفوا العمليات القتالية الكبيرة طوال عام تقريبا هو عام 66، وكيف أنهم اعتقلوا قيادة الجبهة القومية في القاهرة ومنعوهم من العودة إلى الجنوب لمواصلة النضال وقيادته واكتفوا بالشعارات الإذاعية من إذاعات صوت العرب وصنعاء وتعز، ونسب كل شيء إليهم كذبا، وهي تتم بقوات الجبهة القومية ومنظماتها على الأرض، ولم تكن العلاقة مع الإنجليز والسعودية قد توقفت أو قطعت أصلا في يوم من الأيام، كما أن الاغتيالات ضد قادة الجبهة القومية المشهورين البارزين المعروفين لم تكن تتم بدون تنسيق متنامٍ مع الإنجليز ومخابراتهم وجيشهم.
وكان المصريون قد حاولوا سحب الأسلحة الثقيلة من الجبهة القومية وقواتها لكنهم فشلوا لأنها كانت في الداخل الجنوبي وليست في تعز وصنعاء، علما أن المصريين لم يسلحوا التحرير بأسلحة حقيقية جادة وإنما سلحوها بأسلحة خفيفة جدا لا تسمح لها أن تتوسع على الأرض ولا أن تخرج من المنصورة إلى حواليها.
فلو أن المصريين كانوا جادين في خلق قوة حقيقية بديلة لمقاتله الإنجليز لكانوا سلحوها ونظموها بآلاف الأعضاء والمقاتلين ولأصبحوا قوة منافسة في ميدان النضال الوطني، وهذا شيء مرحب به بالضرورة من الجبهة القومية ومن الشعب، ولكنها لم تكن جادة ولا المصروين كانوا جادين في القتال.
لقد أرادوا استخدام الكفاح ضد الإنجليز أداة للضغط السياسي على الإنجليز والسعوديين لعقد صفقة سياسية تسمح لهم بالخروج الآمن من اليمن أو السيطرة على السواحل الجنوبية مباشرة، وعلى هذا تم التفاهم بين الملك فيصل وعبدالناصر أولا في جدة، وبعدها في الخرطوم بعد نكسة 67.
وهذ ما تفيض به التواريخ والمذكرات السياسية اليمنية الجنوبية والمصرية وغيرها من الكتابات الموضوعية الواقعية.
ماذا أراد الإنجليز والسعوديون في الجنوب من مناوراتهم مع المصريين الفاسدين؟
الإجابة نجدها بوضوح في كتابات الإنجليز الموضوعيين، مثل فريد هوليداي، ومن المصريين الواقعيين مثل محمد حسنين هيكل، وأيضاً الباحث السوفيتي الكبير فيتالي ناومكين، وفي كتابات القادة اليمنيين بمن فيهم الجنوبيون الذين عاشوا الأحداث منهم نجيب قحطان الشعبي، وفيصل الشعبي وقحطان الشعبي وعلي عبدالعليم وراشد محمد ثابت وسلطان أحمد عمر ومحمد علي الشهاري وعبدالفتاح إسماعيل وعبدالله الخامري ومحمد سعيد محسن ونايف حواتمة وهاني الهندي ومحسن إبراهيم وجورج حبش وفواز طرابلسي، كلهم تناولوا الثورة اليمنية في الجنوب نقديا وواكبوها، كما أن الجانب البريطاني الغربي وقد مرت الفترة تبقى الأحداث عندهم سرا فقد توفرت العديد من الموضوعات الخاصة بالجنوب والثورة والاستقلال.
إن الاستراتيجية البريطانية للخروج من الجنوب قد تركزت على أساس الاعتماد على حلفائها القدامى بعد تبديل جلودهم مرحليا وبرفع شعارات مناسبة تتجاوب والحركة الوطنية الجنوبية والقومية الانتهازية المساومة في النظام المصري الفاسد الذي أراد أن يساوم على القضية الثورية الجنوبية لصالح القوى المتحالفة مع بريطانيا والسعودية المعتدلة كما تسميها القوى التي لم ترفع السلاح في وجه الاستعمار، وإنما رفعت شعارات للترحيب بالصداقة مع الإنجليز ومع الغرب والدخول في أحلافهم الدولية للسيطرة على المنطقة العربية والجنوبية تحديدا بأساليب جديدة هي إبقاء القواعد العسكرية البريطانية مقابل الأموال التي تضخها على المنطقة باسم استئجار مناطق في الإقليم تقيم عليها قواعدها الأمنية، مع منح الإقليم استقلالاً صورياً تحت إدارة حلفائها وعملائها، وهذه الأهداف لقيت تفهماً وتقديراً من قبل حكومة صنعاء الرجعية العسكرية التي كانت تحت سيطرة عبدالحكيم عامر وحلفائه اليمنيين من أصدقاء السعودية والمعادين للثورة في الجنوب من جماعة الإخوان والبعث القبلي بعد طرد السلال إلى القاهرة وحجزه هناك حتى نهاية 66، بعد ظهور مؤامرة كبيرة ضد الثورة والجيش المصري.
وكان الدكتور البيضاني كشف في كتاباته تلك النوايا التي توافقت مع بريطانيا وأهدافها والتي دفعته إلى تجاوز الرئيس اليمني والرحيل إلى عدن وإلى قصر المندوب البريطاني للتفاوض معه باسم القوى التي كانت تسيطر على الموقف في القاهرة وفي صنعاء والتي دفعته للتفاهم مع البريطانيين وجس نبضهم حول مستقبل المنطقة والتلويح بالمساومة حول مستقبل الجبهة القومية تحديداً وحول الإقليم التعزي البيضاني المجاور للجنوب وضمه إلى الإقليم المحتل جنوبا، علما أن السلال كان قد طرد البيضاني من صنعاء وجرده من كل مناصبه بعد انكشاف نشاطه الطائفي التخريبي الانفصالي وعلاقاته بالإنجليز ومراسلاته السرية بهم وعرضه لهم الكثير من التنازلات الإجرامية، وكان هو أحد رجالات المشير عامر وتحت حمايته.
وكان البيضاني قد اعترف بأنه ليس مع الثورة الجنوبية ضد الإنجليز، ويعارض العنف ضدهم، كما يقول هو، وأنه عرض خياراً يمكن التفاهم عليه مع الإنجليز والسلاطين، وهو خيار سلمي تفاوضي سياسي، أي الرهان على السلاطين والمشايخ المحليين وكبار الرأسماليين الكومبرادوريين في الجنوب، أمثال الشيخ الجفري والشيخ الحبشي وسلطان لحج وسلاطين حضرموت والمهرة وغيرهم، أي إعادة تدوير وزراء عدن السابقين ورموز القبائل الريفيين من أصدقاء بريطانيا وحلفائها. ولأن الجبهة القومية تصدت للمساومات الجارية وفضحتها علنا في مؤتمراتها ومناقشاتها وصحفها، كما ضبطت عبر أجهزتها الأمنية وثائق تفضح المساومات مع بريطانيا من قبل القادة المصريين وقادة حكومة صنعاء آنذاك في نهاية العام 66، وسلمت لعبدالناصر مباشرة الوثائق والبيانات التي حصلت عليها عبر اعتقالها أحد الجواسيس البريطانيين كان ينظم اتصالات نظام صنعاء وعدن مع بريطانيا المستعمرة، وكانت الوثائق تفضح اتفاقات سرية تستهدف الوجود العسكري السياسي المصري في اليمن، وهو ما أرعب عبدالناصر وأعاد السلال وغير قيادة الجيش المصري السابقة في اليمن التي كانت ضالعة في المؤامرة بتوجيه المشير عامر نفسه، وكان الفريق كامل مرتجى، وهو المقصود هنا، قد أصدر مذكراته التي كشف فيها عن بعض جوانب المؤامرات التي جرت، وحاول رميها على المشير عامر مدعياً عدم فهم ما كان يجري على حقيقته، ويمكن العودة إلى كتاب الفريق مرتجى وكذلك إلى كتاب البيضاني وكتاب الدكتور محمد علي الشهاري وكتاب سلطان أحمد عمر، وهذا يكشف الوجه الآخر للجبهة القومية ومنظمة التحرير، ويجد الإجابات الشافية لسبب اختلاقها عشية الاستقلال وماذا كانت تمثله من مشروعات مشبوهة وخيانية واضحة، رغم سذاجة بعض أتباعها.
لقد أراد الإنجليز أن يحققوا بالسياسة ما عجزوا عنه بالحرب، أن يضعوا في الجنوب بعد خروجهم -وهو ما حدث- أصدقاءهم وحلفاءهم في الحكم تحت إشراف السعودية. وكانت الشخصيات العدنية التي وضعت على رأس التحرير هي عناصر تتبع أصلا المسار السياسي الاستراتيجي السعودي البريطاني الأمريكي في المنطقة، وكانت تحلم بكانتون منفصل عن اليمن الشمالي الجمهوري، كانتون تموله السعودية وتوجهه بريطانيا التي أرادت إبقاء القواعد العسكرية البريطانية في الجنوب الجديد المستقل صوريا، وكان هؤلاء ضالعين في المشروع، فهم يقولون إن بريطانيا صديقتنا وحليفتنا ومرجعيتنا الفكرية والسياسية... وراجعوا كتابات الأصنج والمكاوي القديمة، وخاصة ما قبل ظهور التحرير، راجعوا ما كتبوه في صحف عدن وما أصدروه من كتب وكراريس وما تبنوه من مبادئ ومواقف وتعاون مع الإنجليز سياسيا واستراتيجيا، وأن الطريق للاستقلال هي المفاوضات السلمية معهم وعبرهم هم، وأنهم لا يريدون العنف ولا الحرب ولا الدماء، وأن بريطانيا محل ثقة... وهي العبارات نفسها التي قيلت للشعب الفلسطيني في 36، عشية ثورته بقيادة الشيخ عز الدين القسام.
"بريطانيا صديقتنا وهي محل ثقة وقد وعدتنا أن تجد حلا سياسيا سلميا للمشكلة، أي الاحتلال الصهيوني البريطاني المشترك لأراضي فلسطين". ونحن نعرف النتائج التي ترتبت على تلك المواقف؛ لقد ذبحت الثورة وقادتها وفتحت الطريق أمام المستعمر ومؤامراته، والجماعة الإخوانية نفسها هنا وهناك كانت برعاية الإنجليز في الحالتين، وتؤدي الدور ذاته المخادع ضد الثورة التحررية وضد القوى الوطنية وتؤدي الأغراض والأهداف نفسها.
ما هو معروف ومؤكد هو أن المشير عامر وعصابته كانت لهم ارتباطات ارتهانية بريطانية أمريكية سعودية، وكان تسليم رأس الثورة اليمنية والجنوبية للرجعية السعودية وأسيادها إحدى المهام التي أنيطت به، وهو ما كشفت عنه المحاكمات بعد نكسه يونيو67، ومحكامته وإعدامه سرا والإعلان أنه انتحر، وهذا ما توضحه كتابات أمين هويدي ومحمد فوزي وحسين الشافعي وزكريا محيي الدين وعبدالمنعم رياض، وهم من كبار رجالات عبدالناصر بعد إسقاط دويلة المخابرات الأجنبية التي أشار إليها عبدالناصر بنفسه بعد النكسة التي كانت مدبرة من قبلهم لإسقاط النظام الوطني في مصر بالتفاهم مع الولايات المتحدة ومخابراتها والتي مولتهم بالكثير من الذهب والأموال لإقامة نظام موالٍ للغرب، وهذا تعبير صادر عنهم في المحاكمات، وخاصة شمس بدران وصلاح نصر وعامر نفسه، وتشير إلى تلك المؤامرة كتابات ومقابلات وشهادات الفريق سعد الدين الشاذلي قائد الجيش المصري في حرب أكتوبر 73، وأصدق وأشجع وأنبل وأبرع وأقوى شخصية عسكرية عرفتها مصر في تاريخها الحديث، وهو واضع خطة العبور الحربية لتحرير قناة السويس والمشرف المباشر لتنفيذها، وكان هو أحد أهم القادة في سيناء في يونيو 67، وهو الوحيد الذي تمكن من الانسحاب من سيناء بقواته دون خسائر تقريبا رغم مطاردة العدو له بالطيران والمدرعات طوال فترة تراجعه بعد هزيمة الجيش المصري وتشتيته بموجب قرار المشير عامر الذي اتخذه في أول أيام النكسة ومازال الجيش بكامل قواته ومعداته بعد خسارة طائراته حين أمره بالخروج من سيناء وترك الأسلحة بدون خطة والهروب عشوائيا من سيناء بدون قتال، مما حقق الهزيمة الرهيبة التي أحاطت بمصر، وكان الجيش مازال قادرا على التمسك بالأرض والقتال دفاعيا من خنادقه ومواقعه لعدة أيام حتى يتم تعويض طائراته، لأن طياريه كانوا سليمين بعد الضربة الجوية التي أصابت الطائرات ولم يكن فيها طيارون بعد، وجرائم عامر في مصر فضحت كل الجرائم الأخرى في اليمن وغيرها.

عبدالناصر يفضح المؤامرة ضد الجبهة القومية ويعيد لها الاعتبار
المؤامرة العامرية استهدفت القضاء على قوى التحرر والاستقلال اليمنية، وتدمير الثورة اليمنية تقربا للرجعية والاستعمار. وكان مما يثير الانتباه والاستغراب سلوك القيادة المصرية في اليمن تجاه الثورة الجنوبية وقيادتها، فلماذا أرادت قيادة جيش مصر في اليمن أن تلغي الجبهة القومية بعد أن توسعت في تحرير أغلب المحافظات الجنوبية؟ وماذا كان في جعبة عامر وجماعته؟ وماذا كانوا يخططون للمستقبل؟ 
إن الإجابة تظهر من خلال مراجعة سياسة وأهداف المشير عامر وشلته الانقلابية العميلة المندسة في قيادة الثورة المصرية لتدميرها من الداخل.
رعى وأشرف عبدالناصر على تشكيل الوفد الجنوبي المفاوض إلى جنيف من خلال وفد مصري مرافق له كان يساعده في أي مشكلة تبرز على الطريق حتى نهاية المفاوضات وتسليم الاستقلال للقيادة الثورية.
قال عبدالناصر لقيادة الجبهة القومية وهو يستقبلها في القصر الجمهوري بالقبة في القاهرة عشية السفر إلى جنيف، حسب رواية الشهيد عبدالفتاح إسماعيل في كتابه حول الثورة أنه قال لهم: "أنتم بتمردكم على مؤامرات عامر وجماعته عليكم، فقد أنقذتم الثورة اليمنية والجنوبية، بل وأنقذتم معها الثورة العربية والمصرية"، فما هي سمات تلك المؤامرات؟

تاريخ الثورة وقواها لا ينفصلان
تاريخ الجنوب التحرري لا ينفك إطلاقا عن تاريخ الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل، قائدة الاستقلال والحرب الوطنية التحررية التي طالت لسنوات في مواجهة جيوش بريطانية وصل تعدادها إلى 100 ألف جندي من نخب الجيوش في العالم لإمبراطورية ضخمة لم تكن تغيب الشمس عنها وعن مستعمراتها، وكانت عدن والجنوب اليمني المحتل تعد المركز الأخير في المنطقة التي تسميها "شرق السويس" في أدبياتها السياسية والتي منها تدير إمبراطورتيها الاستعمارية. 
وأياً كانت الملاحظات والأخطاء التي ارتكبتها الجبهة القومية، هذه المنظمة العملاقة التحررية الوطنية اليمنية الثورية التوحيدية، فلا يملك أي كائن محايد موضوعي شريف إلا أن يحترمها، ودعونا نفضحها ونبعد الستر عن تاريخها وتنظيمها وعن قادتها ومناضليها وشخصياتها ورموزها الذين استشهدوا أو حوكموا أو نفوا أو تقاتلوا أو تصارعوا أو اعتدلوا أو تطرفوا، سواء تحالفوا مع عبدالناصر أم مع لينين موسكو أو كاسترو أو جيفارا أو ماو تسي تونغ أو كيم إيل أو هوشي منه... فما هي مآخذ إخواننا في هذه التحالفات من أجل التحرر الوطني ضد المستعمر للحصول على السلام وادعوا التأييد للقضية؟! فأين العيب في هذا؟! وما الذي يمس شرفنا أو كرامتنا وقد مات هؤلاء الحلفاء شرفاء مخلصين للقضية التحررية العالمية ومن أجل نصرتها وانتصارها؟!
أما بعض السذج من قصار النظر فيثيرون حكاية وأسطورة أن هؤلاء الحلفاء الثوار الأحرار كانوا غير مستقيمين في عقائدهم الدينية! وما شأننا نحن بهم وبعقائدهم، سواء آمنوا أم لم يؤمنوا، فهذا ليس من شأننا ولا من شؤون حركات التحرر الوطنية في العالم، فكل له حريته الخاصة المستقلة ولم يطلب أي منهم منا تغيير ديننا أو عقيدتنا إطلاقا.
وقد كان المتشددون في أمور الدين والعقائد من أدعياء السلفية الإخوانية والوهابية المسيطرون على الدين والمناهج يعلمون الناس كل يوم أن يخلصوا لأولي الأمر وملوك المسلمين ولشقيقتهم بريطانيا العظمى صاحبة الفضل، ويتقربون منها زلفى ليلا ونهارا، ويسيرون في ركابها وهي تمارس مختلف الجرائم ضد الشعب العربي من الخليج إلى المحيط، لأنهم في الأصل صناعتها وإنتاجها، ومازالوا لم يتغيروا.
دور تاريخي ثوري غير مسبوق
والأهم هو الإجابة على سؤال في غاية الأهمية اليوم، وهو: هل كانت مشاريع المشير عامر ومخابراته ومؤامراته وجبهته التحريرية (المزيفة) قادرة على إنجاز التحرير الوطني والاستقلال والكامل للجنوب؟ 
الإجابة سبق أن أوضحناها على لسان عبدالناصر نفسه، أبي الثورة العربية كلها وقائدها الأعلى، الذي قال إن تلك المؤامرات ضد الجبهة القومية كانت تستهدف الثورتين اليمنية والمصرية معا.
يجب أن نفهم حقيقة هامة جدا بعد تكشف المعلومات والحقائق الاستراتيجية المتصلة بالأحداث التي حدثت في مصر خلال النكسة والفضائح التي رافقتها والصراع داخلها وانتفاضة الشعب المصري يومي 9 و10 يونيو واصطفافه خلف عبدالناصر بعد أن قدم لها استقالته واعترف بالنكسة وبمسؤوليته عنها، وضمنا عن مؤامرات عبد الحكيم عامر وقيادته العسكرية المهيمنة على القرارات العسكرية والأمنية، وكانت اليمن كلها تحت إدارته.
اصطفاف الجماهير الغاضبة حول عبدالناصر ورفض استقالته ومنحه الصلاحيات المطلقة للتصحيح أسقط بشكل كامل سيطرة وسلطة عامر وجماعته، بعد تشتيت الجيش بكامله وعودة أفراده إلى قراهم نتيجة النكسة التي أحدثها قرار الانسحاب المذعور غير المنظم للمشير عامر دون أن يستشير الرئيس ناصر وغيره من القادة، فبادر عبدالناصر بعد المظاهرات الشعبية التي سيطرت على القاهرة إلى اعتقالهم ومحاكمتهم على وهج الهزيمة ومرارتها وعلى قوة التفويض الشعبي العارم وقوته وعزيمته على مواصلة القتال ورفض الهزيمة والنكسة والمؤامرات والتصميم على تحرير الأرض التي احتلت خلال المؤامرة والنكسة، وأدت المحاكمات إلى افتضاح الحقائق التي كانت غامضة حتى ذلك الوقت عما يتصل بالثورة اليمنية والمصرية.
هذا السقوط المدوي لعامر ودولته وقوته قد أسقط مركز القوة التي كانت جبهة التحرير تراهن عليه كما وعدت من قبل، وهو تدخل عسكري من قبل القوات المصرية في اليمن، في عدن، وما يدور فيها من صراع بين الجبهتين لصالح جبهة التحرير وتصفية الجبهة القومية التي أنجزت الاستقلال وانتهى دورها المرسوم لها حسب العقلية البيروقراطية السائدة آنذاك.
وفي مقابل ذلك السقوط المدوي في مصر حدث صعود هائل في الجنوب للجبهة القومية وجماهيرها وشعبيتها في الميدان حين نجحت في إسقاط عدن في 20 يونيو 67، منفردة بقواها وجماهيرها بدون أي دعم آخر من أي جبهة أخرى أو طرف آخر في الساحة، وخاضت معركة كبرى لمدة أسبوعين متواصلين مع القوات البريطانية، وهذه المعركة كشفت القوى الواقعية وحجمها ودورها وعلاقتها وموقفها من العدو الرئيسي، وخلال الأسبوعين انتزعت الجبهة القومية وجماهيرها وجنودها المدينة من القوات البريطانية أمام مرأى ومسمع العالم كله.
إن عدم قدرة جبهة التحرير على التدخل والمشاركة في تلك المعركة المفصلية قد كشف حجمها الحقيقي في الميدان، فلجأت إلى تنظيم اغتيالات للقيادات القومية وإطلاق الرصاص عليهم وهم يقاتلون ويقودون المعركة في عدن ضد البريطانيين، وأبرزهم كان القائد عبدالنبي مدرم، قائد معركة عدن الأشهر الذي دوخ الإنجليز وهم يبحثون عنه لقتله، فقتلته جبهة التحرير غدرا وهي تتقرب به إلى بريطانيا زلفى بتوجيهات من الأصنج نفسه.
كان القتلة ثلاثة برئاسة العميل العلس من كوادر جبهة التحرير ورجالها، وقد حوكموا من جانب الجبهة القومية واعترفوا بالجريمة وكشفوا عن علاقات خاصة تربطهم بالمخابرات البريطانية التي حاولت إنقاذهم بمداهمتها المكان السري الذي جرى اعتقالهم فيه ومحاكمتهم في حي الشيخ عثمان في حارة الهاشمي بقوات بريطانية، لكنها وصلت وقد انتهى كل شيء.

يسيئون إلى تاريخ الجبهة القومية ويدعون انتسابهم للثورة اليمنية
قد يسيء كاتب سياسي ما إلى تاريخ الجنوب وإلى تاريخ الجبهة القومية الذي صار أهم فصل في تاريخها الحديث، لأنه تاريخ الحركة الثورية الأكبر والأهم التي ضحت وناضلت على رأس الشعب الجنوبي ونظمت وحققت هي وبقيادتها معارك حرب التحرر والاستقلال، وقد يكون غاضبا وحزينا لأن الجبهة القومية لم تهزم أمام الإنجليز والسلاطين وعملائهم، ولأنها صمدت في وجه مؤامرات جبهة التحرير وقيادتها الأصنجية الباسندوية التي كانت في حضن البريطانيين تخدمهم وتتقاسم معهم الوزارات والمناصب ورئاسة الأحزاب والمنظمات التي تشكلت برعاية الإنجليز ورقابتهم واختراقهم لها والتي ظلت تقاوم الكفاح المسلح والسياسي للجبهة القومية وتغتال أعضاءها وقياداتها وهم في ميدان الصراع مع المستعمرين. إن أعمالا كتلك تعتبر -وفق كل منطق أو شريعة- خيانة وأعمالاً خيانية توجب على أصحابها الموت والسجون والإبعاد.
فقد كانت تقف إلى جانب الموقف البريطاني السياسي الذي يدين الكفاح الوطني العنيف ويصفه بأنه إرهاب، وتحرض الناس من خلال المنابر الإعلامية والسياسية التي وفرها لها المستعمر ومؤسساته، وتشارك في المناورات الانتخابية المزورة والمزيفة التي كانت تتم تحت سيطرة الحاكم الإنجليزي لعدن والجنوب في خداع الشعب حول رغبتهم في المطالبة السلمية بالاستقلال واستعداد المستعمر للخروج من البلاد، فما الحاجة لتدمير البلاد وإسالة الدماء البريئة من الجانبين؟! كان ذلك بهدف صرف اهتمام الشعب بعيدا عن الكفاح الوطني المسلح خلال الستينيات بقيادة الجبهة القومية، وقد تتلمذت قيادتها على أيدي البريطانيين وفي عواصمهم، وقد فضح تلك القيادات وعراها ليس فقط أمام الشعب الجنوبي بل وأمام الشعب في الشمال، في صنعاء وتعز وغيرهما، من خلال المحاكمات التي عقدت لهم في صنعاء من قبل أسيادهم الذين اتهموهم بقضايا وجرائم تمس أمن الوطن وأبسطها التجسس لحساب الأجنبي واستلام أموال بالملايين من دول أجنبية ومنها السعودية والإمارات وبريطانيا وأمريكا.
ألم يحاكم الأصنج في العام 81 بعد أن كان وزير الخارجية ورئيس لجنة الأمن القومي المركزية؟! لقد أدين واعترف أمام المحاكم بالتهم المنسوبة إليه وطلب العفو من سيده علي عفاش، وحكم عليه بالإعدام ثم افتدته السعودية واستلمته من عفاش ليقضي حياته عندها.
ألم ترسله بعد الوحدة لإثارة الانفصال في الجنوب إلى جانب البيض ليضغط عليه لتسليم السعودية مساحات يمنية في حضرموت لتقيم عليها أنبوب النفط الأثير لديها؟! وقد ضبطت تلك المراسلات والوثائق وهي منشورة وموجودة في الأرشيفات اليمنية يمكن العودة إليها للاطلاع، وكان الأصنج قد فرضته السعودية وزيرا لخارجية الجنوب الانفصالي وأحد أهم عملائها، بل هو رئيس فريق خدمها وعملاءها في الجزيرة العربية كلها الذين أوغلوا في خدمة المستعمر القديم والجديد، وكان الأمريكيون قد رشحوه للتجسس والسيطرة على الحراك الجنوبي الانفصالي وتحريضه وتوريطه لإفشاله وهزيمته في النهاية كما ظهر الموقف الأمريكي السعودي البريطاني في نهاية مسرحية الانفصال التي هزلت من داخلها قبل خارجها والتي مثل فيها البيض دور الزوج الأعمى عما يجري واضطر إلى النوم في العسل لـ20 عاما قبل أن يرفع رأسه مجددا ليستمتع لما يجري حوله ثم يعود إلى نعاسه مجددا كواحد من أهل الكهف المشهورة قصتهم في التراث الإسلامي.
أما عبدالرحمن الجفري، رئيس تنظيم الرابطة الانفصالي البريطاني التأسيس والتصميم والتوجيه، فقد عينوه نائبا للبيض وقائدا أعلى لقواته في جبهات عدن، وكان يتواصل مع صالح عفاش يوميا أكثر مما يتواصل مع رئيسه المباشر، ويزوده بكل تفاصيل الجبهات التي تساعده على اقتحام عدن والعند والجنوب عامة، وهذا ما اعترف به بنفسه بعد الحرب وبعد أن عاد إلى صنعاء إلى جانب عفاش، قال إنه تعاون مع صالح لينهي الحرب ودخول عدن، واعترف باتصالاته المستمرة مع صالح خلال الحرب، وهذا كان الموقف الأمريكي والبريطاني والسعودي ومناوراتهم الاستراتيجية التي ضاقت بفهمها عقلية علي سالم البيض، وشكل صمت البيض على تلك الخيانات والمناورات وعدم كشفه للرأي العام الوطني نوعاً من الخيانة الذاتية والتواطؤ، وهذا أحد أسباب اعتكافه الطويل في كهوف الجزيرة وفي السعودية والإمارات والخليج. ولكن هذا موضوع آخر سوف يتم مراجعته في المستقبل، فلنعد إلى موضوعنا الأساسي الذي بدأناه للوصول إلى نتائج تفيدنا.
قد تكون طاردته من عدن خلال معارك الاستحواذ على السلطة والسيطرة على عدن والجنوب عشية الاستقلال، وقد يكون متعاطفا مع فصيل صغير سمي جبهة التحرير أنشأته المخابرات المصرية لمنافسة الجبهة القومية وتحطيم وجودها وسمعتها في أوساط الشعب الجنوبي بعد أن ظلت لثلاث سنوات لوحدها تقود وتقاتل القوات البريطانية في عموم الجنوب مستندة إلى دعم عبدالناصر وإلى الجيش المصري القومي والقيادة اليمنية الوطنية في صنعاء لجهله به أو لأنه كان ينطلق من أحقاد الحزبيات الضيقة أو لأنه قد عانى في سجون الجنوب قبل التحرير وبعده.
إن خدمة القضية الجنوبية تحررية لا يمكن أن تتم من منطلق الجهل بتاريخ الجنوبي الوطني التحرري والجهل بالقوى التي قادت التحرر الوطني وضحت بأغلى رجالها وأبناء الجنوب، فإن كان هذا الجهل صادرا عن جنوبيين فهو والله زلة لا تغتفر، لأنها صادرة عن وعي، وهي بذلك إنما تخرب القضية الجنوبية وتدمر وتضر قضيتها بيدها وعقولها وأقلامها وأفكارها التي تزرع السموم في الصف الوطني التحرري وتمزق وحدته. أما إذا كانت تلك الزلات من إخوة لا يدركون تفاصيل الأحداث الوطنية الجنوبية فهم والله قد خاضوا في بحر لجي لا يدركون أبعاده ولا شواطئه وضفافه، وهذا محال أن يصدر عمن يدير الصحافة الوطنية والإعلام اليمني.