بدر شاكر السياب -
الريح تلهث بالهجيرة كالجثام على الأصيل
وعلى القُلُوع تظل تُطْوى أو تنشّرُ للرحيل
زَحَمَ الخليجَ بهنّ مكتدحون جوّابو بحارِ
من كل حاف نصف عارِ
وعلى الرمال، على الخليج
جلس الغريبُ يسرّحُ البصرَ المحيّرَ في الخليج
ويهُدّ أعمدةَ الضياء بما يصعّدُ من نشيج
أعلى من العبّاب يهدرُ رغوُهُ ومن الضجيج
صوتٌ تفجّرَ في قرارة نفسي الثكلى: عراق!
كالمدّ يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي: عراق!
والموجُ يعول بي: عراقُ عراقُ ليس سوى عراق! 
البحر أوسعُ ما يكون، وأنت أبعد ما يكون
والبحر دونك يا عراق
بالأمس حين مررتُ بالمقهى سمعتك يا عراق
وكنت دورة أسطوانة
هي دورة الأفلاك في عمري تكوّر لي زمانه
في لحظتين من الأمان وإن تكن فقدت مكانه
هي وجهُ أمي في الظلام
وصوتها، يتزلّقان مع الرؤى حتى أنام
وهي النخيل أخاف منه إذا ادلهمّ مع الغروب
فاكتظّ بالأشباح تخطف كلّ طفل لا يؤوبمن الدروب
وهي المُفلّية العجوز وما توشوش عن «حزام»
وكيف شُقّ القبر عنه أمام «عفراء» الجميلة
فاحتازها إلا جديلةزهراء أنت أتذكرين
تنّورَنا الوهّاجَ تزحمه أكفُّ المصطلين
وحديثَ عمتيَ الخفيضَ عن الملوك الغابرين
ووراء باب كالقضاء
قد أوصدتْهُ على النساء
أيدٍ تطاع بما تشاء لأنها أيدي الرجال
كان الرجال يعربدون ويسمرون بلا كلال؟!
أفتذكرين؟! أتذكرين؟!
سعداء كنا قانعين
بذلك القَصَص الحزين لأنه قصص النساء
حشدٌ من الحيوات والأزمان كنا عنفوانه
كنا مداريه اللذين ينام بينهما كيانه
أفليس ذاك سوى هباء؟! حلمٌ ودورة أسطوانة!
إن كان هذا كلّ ما يبقى فأين هو العزاء؟!
أحببتُ فيك عراق روحي، أو حببتُك أنت فيه
يا أنتما مصباح روحي أنتما، وأتى المساء
والليل أطبق فلتشعّا في دجاه فلا أتيه
لو جئتِ في البلد الغريب إليَّ ما اكتمل اللقاء
الملتقى بك والعراق على يديّ هو اللقاء
شوقٌ يخضّ دمي إليه كأن كل دمي اشتهاء
جوعٌ إليه كجوع كلّ دم الغريق إلى الهواء
شوق الجنين إذا اشرأبّ من الظلام إلى الولادة
إني لأعجبُ كيف يمكن أن يخون الخائنون!
أيخون إنسان بلادَه؟!
إن خانَ معنى أن يكون فكيف يمكن أن يكون؟!
الشمس أجملُ في بلادي من سواها، والظلام
حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق
واحسرتاه! متى أنامفأحسّ أن على الوسادة
من ليلك الصيفي طلّاً فيه عطرك يا عراق؟!
بين القرى المتهيّبات خطاي والمدن الغريبة
غنّيتُ تربتَك الحبيبة
وحملتُها فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه
فسمعتُ وقعَ خطى الجياع تسير تدمى من عِثارْ
فتذرُّ في عينيَّ منك ومن مناسمها غبارْ
مازلتُ أضرِبُ مُتْرَبَ القدَمَيْنِ أشعثَ في الدروب
تحت الشموس الأجنبية
متخافقَ الأطمار أبسط بالسؤال يداً نديّة
صفراءَ من ذلٍّ وحمى، ذلِّ شحاذٍ غريب
بين العيون الأجنبية
بين احتقارٍ وانتهارٍ وازورارٍ أو «خَطِيّة»
والموت أهون من «خَطِيَة»
من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية
قطراتِ ماءٍ معدنيّة
فلتنطفي يا أنتِ يا قطراتُ، يا دمُ، يا نقودُ
يا ريحُ، يا إبراً تَخِيطُ ليَ الشراعَ متى أعود
إلى العراق؟! متى أعودُ؟!