صلاح الدكاك / لا ميديا -
هذه المادة كتبت في 24 آذار/ مارس 2005 ونشرت في صحيفة الثقافية حينها
زبيد موال عذابات طويل يغسل رجع صداه الأثير بين «ميناء الفازة» و«جبل قونس»، موال حاد وحزين يشق صمت الصحراء بحثاً عن حنجرة صادرتها الزوابع، ولا شيء سوى سحب كثيفة من الغبار تنقشع رويداً عن جرح طيني كبير تحزمه أشجار النخيل كضمادة خضراء حنون!
أترجل عن السيارة عند البوابة الشرقية للمدينة المسماة «باب الشباريق» نسبة لقرية الشباريق الواقعة بالقرب منه، على يميني بأمتار قليلة يقف مكابرا «قصر شحار» ببابه العالي الذي تصعد إليه عبر مدرج مبني من «الآجر والجبس» يحيط به في نصف دائرة.. يتجاوز عمر القصر الآن الألف عام منذ أن بناه أحد موالي محمد بن زياد، مؤسس الدولة الزيادية (204-412هـ)، وخصصه نزلاً لولاة زبيد، وهو حالياً مقر لمكتب الهيئة العامة للآثار، كما تشير اللافتة.
في ما بعد سأشاهد العديد من المآثر الدالة على دويلات مختلفة حكمت زبيد واتخذت بعضها من المدينة عاصمة لها، وسأشاهد بحسرة كيف يزحف الخراب على الدور والقلاع والمساجد وأربطة ومقاصير العلم والأسواق، بينما تقف الحكومة موقف المتفرج، حتى مع تحذيرات «اليونسكو» بشطب المدينة من قائمة مدن التراث العالم العالمي التي انضمت إليها زبيد عام 1993.
بغداد اليمن
على بُعد 25 كيلومتراً من البحر الأحمر تقع المدينة بين واديين «رمع وزبيد». أما أصل تسميتها فيرجع إلى زبيد الأصغر المتصل نسبه بكهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ويذكر المؤرخون أن مدينتين عظيمتين هما «جيجر وقيانوس» نشأتا بالقرب من الموقع الحالي لزبيد قبل أن تندثرا، وعقب ظهور الإسلام ودخول اليمنيين فيه، ابتعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا موسى الأشعري (نسبة إلى قبيلة الأشاعرة الممتدة من جنوب مقبنة إلى شمال وادي رمع) ابتعثه إلى زبيد التي كانت عبارة عن قرى متفرقة وحرج كثيف الأشجار، فابتنى «مسجد الأشاعرة» (8هـ) لتبدأ بذلك أول نواة لنشاط «علمي عمراني» أخذ يتسع شيئاً فشيئاً مع تعاقب الدويلات إلى درجة أصبحت معه المدينة قبلة للعلم والعلماء ومركز إشعاع حضاري، وساعد وقوع المدينة على «ميناء الفازة» -النشط والشهير حينها- على ازدهار صناعاتها وأسواقها، فاشتهرت حرف يدوية متنوعة أبرزها حياكة الغزل والنسيج وصباغة الأقمشة بـ»النيلة الزرقاء» في مصابغ خاصة بلغت في وقت من الأوقات قرابة المائة مصبغة «بماركة وختوم تجارية» تميز نتاجات الواحدة عن الأخرى.
إن وراء كل نشاط معرفي نشاطاً اقتصادياً ولا ريب، وقد عرفت زبيد النشاطين معاً، فكان نتاجها من المؤلفات التي لاتزال بعضها مرجعاً للباحثين وطلبة العلم حتى اللحظة، مكافئاً لنتاجها من الصناعات والحرف، ولعل أزهى عصور المدينة على الإطلاق كان العصر الذي وقعت خلاله زبيد تحت حكم الدولة الرسولية (635-858هـ)، التي اتخذت من تعز عاصمة لها، وامتد نفوذها إلى الحجاز، ففي هذا العصر -تحديداً- تضاعفت أعداد مدارس العلم ونشطت حركة التأليف، واتسع نطاق السوق المستقبلة لمنتجات زبيد ومحاصيلها الزراعية، وعكس هذا الحراك الاقتصادي نفسه على أهالي المدينة وعلى الوافدين إليها طلباً للعلم من شتى الأمصار، إذ خصصت الدولة بنوداً وأوقافاً للإنفاق عليهم وتكفلت بمستلزماتهم من طعام وملبس وإقامة، وظل ذلك عرفاً تتوارثه وتعمل به الدويلات التي حكمت المدينة بعد ذلك، حتى أصبحت «زبيد» بالفعل «بغداد اليمن».
يذكر المؤرخ عبدالرحمن الحضرمي أن عدد طلاب العلم في زبيد عام 1355هـ بلغ خمسة آلاف طالب وفدوا إلى المدينة من مختلف اليمن ومن إريتريا والصومال وجنوب شرق آسيا، وهو رقم متواضع في حال عرفنا أنه كان بزبيد -في وقت سابق- مائتان وست وثلاثون مدرسة على عهد الملك الأشرف إسماعيل الرسولي، علاوة على المدارس التابعة لجامعة الأشاعر، ومن المهم أن نفرق بين ثلاثة أنماط من أنماط التعليم تتدرج -من حيث المستوى- بدءاً بـ«الكُتَّاب- المعلامة، فالرباط، فالمدرسة»، حيث تنهض كل واحدة بدور مختلف يتصل مع الأخرى.
إن تراجع مكانة زبيد العلمية وأفول نجمها العلمي والاقتصادي يبقى مجالاً واسعاً وبكراً لدراسات وبحوث يمكن أن تضع المشرط على الجرح.
يجمع مهتمون ومراقبون على أن هذا التراجع والأفول بدأ حقيقة مع فقدان صناعات وحرف زبيد أهميتها تدريجياً بدخول الصناعات الحديثة كنتاج لعصر الآلة، وقد زامن ذلك أفول تدريجي للمدينة كمركز إشعاع معرفي. إن زبيد الآن لا أكثر من دفتر ذكريات يزحف عليه سوس الخراب، وعندما نتحدث عن أهمية الحفاظ عليها، فإننا لا نتجاوز مجرد الحديث إلى الطمع في أن تعاود نشاطها بقوة وزخم النشاط القديم. نريد فحسب أن نحافظ على هذا المتحف الطيني الكبير بإنسانه وملامح دوره وفسيفساء الحياة اليومية فيه. ويبدو أنه حتى هذه الرغبة الصغيرة أصبحت ضرباً من الطمع المبالغ فيه، مع تحذيرات «اليونسكو» الأخيرة باندثار وشيك لمقومات دفعت بالمدينة قبل أكثر من 10 سنوات إلى قائمة مدن التراث العالمي، لاسيما أنه -ومنذ ذلك الحين- لم تُحظ المدينة بدعم أو عناية حكومية تذكر، كما لم تشكل لجنة للحفاظ عليها على غرار لجنة الحفاظ على صنعاء القديمة، وعقدت في كانون الأول/ ديسمبر الفائت (2005 تاريخ كتابة الاستطلاع)، بدعوة من اليونسكو، ندوة تمخضت عن خطة عمل ومجموعة من القرارات والتوصيات العاجلة والتي يمكن أن تجنب المدينة شطباً نهائياً من قائمة التراث العالمي، لكن أياً من ذلك لم يعرف طريقه إلى الواقع، فيما تتزايد المخالفات والاستحداثات يوماً فيوماً وتتلاشى ملامح المدينة بشكل متسارع.. وتسهم الحكومة في تغذية جانب من العبث الحاصل، فالمباني التي أنشئت حديثاً كمرافق خدمية في حرم المدينة مخالفة كلياً لنمط المعمار التقليدي، الأمر الذي يقطع بعدم جدية واضحة حيال الحفاظ على المدينة من قبل الجانب الحكومي.
لنعد إلى الوراء قليلاً، فعلى عهد الأئمة استحدثت مبانٍ للولاة والعمال روعي في معمارها المواءمة مع المحيط، كما علمت من بعض أهالي زبيد.
وصادف زيارتي للمدينة انتشار «حُمَّى الضنك»، حيث حصدت قرابة خمس عشرة ضحية، حسب مصدر عليم... إن قصة إنسان هذه المدينة قصة مؤلمة هي الأخرى، إنه كشكول مواهب وإبداعات ملقى على الهامش، وعرضة للنسيان والفقر وحُمَّى الضنك. يقول غالب (30 عاماً): اكتفت عربة الرش الصحي بجولتين في المدينة قبل أن تنصرف. إن الخدمات الصحية هنا محض إسقاط واجب!
في ضيافة الملك الأشرف
هناك استراحتان وحيدتان فقط لاستقبال السياح مصممتان ومؤثثتان بطريقة تقليدية، وفيهما من الروح أكثر مما فيهما من الترف، الظل والأسرّة والمقاعد المشغولة من الخوص وسعف النخيل معدة كما تشتهي نفس سائح يتوق إلى حياة مغايرة. وعلى أوتاد الاستراحة وحيطانها توزعت بروحانية دفوف وأواني طعام شعبية ومشغولات يدوية تقليدية ولوحات فنية لوجوه ومعالم زبيدية بريشة فنان المدينة الأول -كما عرفت- عبدالواسع الحضرمي. هذه لوحة تظهر فيها أبواب المدينة الأربعة «الشباريق، القرتب، النخيل، أو غليفقة ويطل على مليوني نخلة، وأخيراً باب سهام».. لاتزال الأبواب قائمة إلى اليوم منذ أن أقام الحسين بن سلامة سوراً حول المدينة في القرن الرابع الهجري، وقد تم تجديد السور مرات عدة، فعلى إثر غارات علي بن المهدي منتصف القرن السادس الهجري، قام الأمير سرور الفاتكي بتجديده وحفر خنادق حوله، ثم جدده طغتكين بن أيوب في عهد الدولة الأيوبية سنة 589هـ، ثم الملك الأشرف إسماعيل الرسولي سنة 791هـ، وشهد السور آخر تجديد له سنة 1222هـ على يد حمود بن محمد الخيراتي، كما يذكر المؤرخ عبدالرحمن الحضرمي.
في الحائط أيضاً لوحة لرقصة شعبية بصفين من الرجال والنساء، ولوحة ثالثة ورابعة و... أغادر الاستراحة.
عواصف الغبار مازالت تمشط المدينة. صارت محببة لديَّ، كم هي مذهلة زبيد، حتى مع هذا العرق المختلط بالأتربة ينساب مدفوعاً بمطلع صيف قائظ؟! حتى مع هذه السحنات والأجساد الملفوحة والناضحة بشكوى مرة.
بوسعي أن أسترق السمع إلى حلقات «ابن الديبع، والحداد، وابن عقامة...»، وأن أصغي لأسئلة ومداخلات طلبة المدرسة العصامية، وأقرأ فصولاً من كتاب «التفقيه على شرح التنبيه» وفصولاً من «تجريد صحيح البخاري» وأخرى من «استنباط الصناعة الجبرية والمعتمد في الطب»...وأن أطوي شريط الزمن عقوداً وقروناً للوراء، فأندس بين حشود تقاطرت على وقع حدث علمي كبير.
للتو فرغ والي زبيد من وضع اللمسات الأخيرة في موكب يتقدمه «مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي» وبين يديه كتاب «الإصعاد» ملفوفاً بالحرير على طبق من الفضة.
آخذ مكاني في الموكب المتوجه إلى «تعز- العاصمة الرسولية»، وهناك يستقبلنا الملك الأشرف إسماعيل في كوكبة من رجال العلم والأدب والقضاء، تمر لحظات مهيبة يضع خلالها «الفيروزآبادي» كتابه «الإصعاد» بين يدي الملك، ويعود محملاً بصفائح من الذهب مكتوباً عليها:
إذا جادت الدنيا عليك فجد بها
على الناس طراً قبل أن تتفلتِ
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت
ولا البخل يبقيها إذا هي ولتِ.
ترى كم قرونٍ مرت على هذه الإغفاءة الجميلة الموغلة خلف ضباب اللحظة الراهنة صوب نهايات القرن الثاني عشر الميلادي... قبل أن أفيق على صوت دراجة دليل رحلتي الشاعر «محمد آدم» (28 عاماً)، وهي تتوقف عند مدخل سوق زبيد ونترجل عنها -كلانا- لنتجول على الأقدام في سوق ظل حتى منتصف القرن الماضي عامراً بالحرف اليدوية والصناعات، وها هو يتحول اليوم إلى خرائب تهدمت غالبية سقوف حوانيته، فيما جدران وسقوف البقية متصدعة وعلى وشك السقوط، ولا باعة فيها عدا بضعة حوانيت هنا وهناك لا علاقة لها بالسلع التقليدية التي اشتهرت بها السوق.
يقول أسامة الحضرمي، رئيس جمعية الحصيب للتراث والفنون الشعبية: السوق قلب المدينة النابض، وقد اندثرت باندثار سوقها!
ويحمل آخرون الحكومة جزءاً من تبعات هذه الكارثة حين أنشأت سوقاً حديثاً عام 84 بالقرب من سور المدينة، وأجبرت الباعة على الانتقال إليه، إذ أسهم قرار خاطئ كهذا في التعجيل باندثار البنية التحتية للسوق القديم...
جولة أخرى على متن الدراجة والمزيد من الخراب، المجاري الطافحة في الأزقة، الأسمنت الزاحف على السطوح والجدران، المنازل المتصدعة، والأخرى المطمورة، حتى النوافذ بكثبان رملية متراكمة بفعل العواصف.
يكمن جزء من المشكلة، كما يتفق غالبية من قابلتهم من الأهالي، في الكلفة الباهظة التي تواجه من يريد ترميم منزله بالمواد التقليدية وعلى النمط القديم، مضافاً إلى ذلك شحة هذه المواد في مقابل وفرة المواد الحديثة وقلة كلفتها، ومع ضيق الحال وغياب الدعم الحكومي فإن المواطنين يضطرون لتوسعة وترميم منازلهم باستخدام الطوب والأسمنت، وفي العام المنصرم حصل مواطنو زبيد على منحة من وزارة الثقافة قدرها ثلاثة ملايين وستمائة ألف ريال، لترميم وصيانة 36 بيتاً، أي بمعدل مائة ألف لكل بيت، إلا أن المجلس المحلي للمدينة احتجز هذه المنحة لديه وقام بتوزيعها عليهم كقروض مستحقة السداد على أقساط!
إن تنافساً هستيرياً بين الجهات الحكومية وغير الحكومية الناشطة تحت لافتات الحفاظ على زبيد وحماية موروثها، كان سبباً رئيساً في حرمان المدينة من منح مجزية أبدت منظمات خارجية معنية استعداداً لتقديمها، وبلغ هذا التنافس الهستيري حد تفويت فرص ذهبية على المدينة كان بالإمكان أن تدرأ عنها خطر سقوط وشيك، وقبل سنوات -على سبيل المثال- غادر منسق «برنامج تنمية التراث الحضري-الهولندي» زبيد مشيعاً بعبارات استياء ورفض أطلقها بعض أهالي المدينة مدفوعين بتحريض جهات متنافسة بعد يأسها من أن تكون عنق الزجاجة لدعم هولندي طويل المدى ومتعدد الأشكال كان مقرراً أن تحظى به المدينة.
إن عشرات الجمعيات غير الحكومية بينها خمس جمعيات نسوية تنشط الآن، بمبادرات ذاتية في زبيد، تشكو غياب الدعم والتشجيع لأنشطتها، علاوة على عدة منتديات أدبية وثقافية اسسها شبان مبدعون يدفعهم الحماس لكسر جدار العزلة المضروب حول مدينتهم، وتمكن هؤلاء -فقط- في الموسم الماضي، وبجهود ذاتية، من تنظيم مهرجان ثقافي شارك فيه قرابة مائة شاعر من زبيد وحدها، وكان ناجحاً لدرجة أذهلت الجهات الرسمية التي حضرت الفعالية كضيف شرف لا أكثر.
إن النهوض بإنسان زبيد ورعايته مسألة ينبغي أن تتزامن مع النهوض بقواعد البنية التحتية للمدينة الموشكة على التداعي. يقول الشاعر جمال المهدي (39 عاماً): «إن بقاءنا على الهامش الإعلامي لا يعني أننا غير موجودين»، ويبدو أن الإحساس بالغمط والتجاهل الرسمي لإبداعات الشباب هناك هو قاسم مشترك لدى الجميع، وصادف زيارتي للمدينة موعد «سمر ثقافي أسبوعي» تقيمه جمعية الحصيب للتراث والفنون الشعبية كل خميس، فيما تتناوب على إحياء الفعاليات في بقية أيام الأسبوع جمعيات ومنتديات أخرى، وأبرز فعالية هي «اثنينية الرسام» التي يقيمها ملتقى الرسام الفكري ويرأسه الأديب والشاعر أحمد رسام، وهناك -أيضاً- المنتدى الأدبي الثقافي ونادي الغرّاء لفنون المسرح.
كان السمر ثرياً ومذهلاً بالفعل، وتنوعت فقراته بين المحاضرة والقصة القصيرة والقصيدة والمساجلة الشعرية بالعامية والعزف والغناء على العود... إبداعات لا تتوقع، ربما لتعتيم إعلامي، أن تصادفها في زبيد وبهذا الكم والتنوع.
كانت محاضرة السمر مكرسة للاحتفاء بيوم عاشوراء، ودار الجدل حول ما إذا كان احتفاء أبناء زبيد به هو إحياءً لذكرى استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، أم كمناسبة دينية نبه عليها الرسول صلى الله عليه وآله سلم وفق بعض المأثور؟! بطبيعة الحال فإن الأهالي هناك -وإلى وقت قريب- يحتفلون بهذا اليوم في طقوس تعرف بـ»عيد الرشيشة»، حيث يخرج الأطفال صبيحة يوم عاشوراء شبه عرايا ويمرون بمنازل الحي مرددين أهازيج خاصة، فتدلق عليهم أباريق الماء من سطوح المنازل، كما يتهادى الأهالي باقات الرياحين المزروعة شجرته في فناء كل منزل، ويشربون الـ»شربيت- الشربات بالمصرية»، وهو شراب أحمر اللون يقدم في الأفراح عادة، ويعتقد بعض الزبيديين أن للون المشروب علاقة بـ»دم الحسين عليه السلام المسفوح في كربلاء»،.. وفي عصر يوم عاشوراء تقام مأدبة تسمى «المرفد» تعد خلالها أقراص «الدجرة- نوع من الحبوب، والكدر»، ثم توزع على الأطفال منقوعة بـ»الزوم- حساء البذر».
طقوس تبقى ذات مدلول اجتماعي ثقافي، غير أن «مثقفي زبيد» -لمغزى تحفظي غير بعيد عن مجريات الحرب التي كانت تشنها السلطة على صعدة حينها- ينفون أن تكون من قبيل التشيع، مؤولين ذلك بـ»قرب الشبه بين المجتمع الزبيدي ومجتمع تريم المعروف بتسامحه الديني»، حيث كانت مدارسه وأربطته ملتقى للمذاهب الأربعة عموماً، والحنفية والشافعية تحديداً، ولا يؤثر في ذلك أن زبيد مقسمة إلى أربع طبقات اجتماعية يأتي في صدارتها «السادة» المنحدرون من آل بيت الرسول، ثم «العرب القبائل والريسة» (المزاينة) وأخيراً الأخدام، ومن المهم أن نعرف أن أسراً من محافظات مختلفة -لاسيما حضرموت- انتقلت في فترات تاريخية ما لتقيم في زبيد وتصبح جزءاً من نسيجها الاجتماعي، وكان دافع انتقالها في الغالب معرفياً، وفي الفترة الذهبية للمدينة، وهي ظاهرة شاهدت مثيلها في تريم، حيث يقيم -اليوم- إندونيسيون وماليزيون مع عائلاتهم بعد أن وفدوا إلى المدينة في البدء بهدف تحصيل العلوم الشرعية في مدارسها وأربطتها، فأغراهم المكان بالإقامة الدائمة فيه.
لقد فقدت زبيد مكانتها اليوم كقبلة معرفية، فيما لاتزال تريم بأربطتها ومدارسها تشد إليها مئات الوافدين من دول مختلفة حتى اللحظة.
زبيد بـ»عربية ركيكة»
عدا سائح ياباني احتل المقصورة المجاورة لي في مبيت الاستراحة، والألماني «غوبرت»، لم أصادف سياحاً أجانب في زبيد.
«غوبرت» متخصص في الأزياء الشرقية -ربما في شقها التجاري أكثر منه الفني- طرح أسئلة عن أنواع الأقمشة التقليدية، والتطريز، والنيلة الزرقاء، وعن المصابغ، و... اقترح «داؤود بازي- باحث» زيارة مصبغة قريبة.
يتحدث غوبرت العربية بمستوى لا يخدم ما يتطلع لجمعه من معلومات حول موضوع بحثه، وفي زبيد هناك ثلاثة إلى أربعة مرشدين فقط يمكنهم التخاطب بإنجليزية جيدة، لم يكن أحدهم حاضراً، لذا فإن الشروح الطويلة التي تلاها مالك المصبغة، وهو يطلعنا على أدوات الصباغة وخطوات الإنتاج وأنواع الماركات، لم تكن ذات قيمة بالنسبة لـ»غوبرت»، لذا فقد اكتفى بالتصوير والقليل مما فهمه من إيماءات بالحواجب والأيدي!
حدثني غوبرت -بعد ذلك- عن سر اهتمامهم كألمان بتراث مدن الشرق القديمة، قال إنهم يشاهدوننا على شاشة التلفاز ويتوقون لمعرفة الكثير عنا -نحن الذين نتصدر نشرات أخبار العالم دولاً وشعوباً، وهناك أشياء أخرى لم يقلها الألماني الشاب، ربما بسبب عربيته الركيكة.. وكان مدير المعهد الفرنسي للعلوم والآثار في صنعاء أخبرني خلال لقاء صحفي عن كتالوج توثيقي يعده المعهد لمخطوطات مكتبات زبيد، وتتولى الباحثة «آن روجور» مهمة الإشراف عليه، وسيصدر المجلد الأول منه عما قريب، حد قوله.
إن زبيد تحتاج من الحكومة إلى بعض جدية الفرنسيين خصوصاً والأوروبيين عموماً، للحفاظ على تراثها العمراني والمعرفي، ولعل صدارة الخطوات التي ينبغي أن تشرع في تنفيذها أن تقوم بوضع مخطط لمدينة جديدة تستوعب التوسعات الجارية في الأبنية، والتي تتم حالياً على حساب حرم المدينة القديمة، ولن يحتاج الأمر إلى الكثير من الجهد، إذ يكفي الاسترشاد بنموذج الحفاظ على صنعاء فحسب.
إن لدينا ثلاث مدن مدرجة ضمن قائمة مدن التراث العالمي، لكن أحداً لن يصدق أن زبيد في وضعها الحالي إحدى هذه المدن بالمقارنة مع المدينتين الأخريين «صنعاء، وشبام حضرموت». وبطبيعة الحال، فإن زبيد أقدم المدن الثلاث على الإطلاق قياساً بعمر دورها الباقية حتى اللحظة الراهنة مع أعمار أقدم الدور في نظيرتيها الأخريين، فالمدينة لاتزال تحتفظ بملامحها الأصلية التي عرفت بها قبل أكثر من ألف عام. كما لايزال سورها بأبوابه الأربعة قائماً ويلزمه القليل من الترميم، غير أنها تعاني من اندثار شبه كلي لموروثها الشعبي وحرفها اليدوية خلافاً لصنعاء القديمة التي تمتاز بأسواق شعبية وصناعات مازال غالبية سكانها يعتاشون من ريعها، ويستطيع السائح فيها أن يخرج بتحف ومشغولات كثيرة تذكره بها، فيما يعد الحصول على وجبة طعام جيدة ضرباً من الترف في مدينة «العلم والعلماء» المفتقرة لأبسط الخدمات، الأمر الذي عكس نفسه سلبياً على الوضع المعيشي لسكانها. إنهم بسطاء ومتعففون ولا يطمعون في أكثر من عيش الكفاف، لذا فإن سائحاً من الطراز الأوروبي يزور المدينة سينفق القليل جداً مقابل الكثير مما سيشاهده في متحف طيني كبير لا يُطالَب زائروه بقطع تذاكر للتجول في أجنحته المتعددة والثرية بالكنوز.
إن استثمار المدينة بالحفاظ عليها وإحياء موروثها هي واحدة من أنجح الصفقات التي يمكن -فيما لو أقدمت الحكومة عليها- أن ترفد قطاع السياحة في اليمن بالكثير من العملات الصعبة وتعود بمردود وازن على مجتمع مدينة استغنت بتعففها فلا تسأل الحكومة أو زائريها إلحافاً.
وتمتاز زبيد -دوناً عن نظيراتها في قائمة مدن التراث- بمقومات طبيعية تجعل السياحة فيها لا تقتصر فقط على جانبها التاريخي، فهناك وادي زبيد المترع بالخضرة وبمحاصيل زراعية متنوعة، وهناك -أيضاً- ميناء «الفازة» الواقع على بُعد 25 كيلومتراً من المدينة، وهو منتجع طبيعي كان ملوك بني رسول يصطافون إليه طلباً للراحة والاستجمام، ويمتاز شاطئه بوفرة النخيل والماء العذب، علاوة على وجود مأثرين مهمين فيه، هما بئر الملك الظاهر يحيى الرسولي، وضريح «أويس القرني» التابعي الذي بشر به الرسول كـ»أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره».. كما يوجد بالقرب من المكان مسجد بناه الصحابي معاذ بن جبل الذي ابتعثه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع رفيقه أبي موسى الأشعري، لتفقيه تهامة اليمن وتعليمهم أمور دينهم في العام الثامن الهجري.
إن هناك المزيد مما ستفاجئك به زبيد، هذه المدينة التي رفدت المكتبة العربية بأشهر قاموسين في اللغة هما: «تاج العروس- لمرتضى الزبيدي» و»القاموس المحيط للفيروزآبادي»، وعلى أيدي علمائها درس الفيلسوف الشهير «الفارابي» وحصل على «إجازته العلمية» التي تناظرها درجة الدكتوراه حديثاً. ومع التعتيم الإعلامي الذي تواجهه المدينة -عن قصد أو دون قصد- فإن جهل الآخرين بها يحول دون حصول المدينة على الهالة المطلوبة لخلق حراك سياحي وتوجيه رأس المال للاستثمار فيها، وأسهم فقدان ميناء الحديدة (المحافظة التي تتبعها زبيد) مكانته كميناء أول لصالح ميناء عدن، أسهم ذلك في زيادة طين المدينة بلة!
كنشي نحاكن ولي؟!
* أقف على قارعة الرصيف الإسفلتي الذي يربط الحديدة بتعز، محملاً بعذابات المدينة وتصدعاتها وشكاوى أبنائها.. من السهل أن تلحظ كم هي حزينة، كتقاسيم عود أمطر ليل زبيد شجناً في سمرة «جمعية الحصيب»، حزينة كحناجر مبدعيها الموجوعة النبرات، وحزينة كصوت «بولغيث» بلبل تهامة، كما يسمونه هناك وحادي جراحاتها.
قبل ستين يوماً من زيارتي لزبيد فقط نزف البلبل دمه على هذا الرصيف الإسفلتي وشهق شهقته الأخيرة في حادث مروري فاجع. ألبوماته تمائم يعلقها الزبيديون على جدران قلوبهم لتؤنس وحشتهم.. «بولغيث» يشبه المدينة كثيراً، صوته خلاصة أحزانها، وكالمدينة عاش مغموماً ومات مغموراً كما تموت هي الآن على مرأى من عيون الحكومة، وبعيداً عن عدسات الإعلام الرسمي.
* ألقي نظرة أخيرة على المدينة، ربما لو قدر لي أن أزورها ثانية فستكون الصحراء قد ابتلعتها، كأنني أسمعها تغني:
«كنشي نحاكن ولي
يزهد يوطِّي تمايم
يفتح لقلبي أمكتاب
لكل معلول دوا
دُلِّه تحطه يحاوي
إلا عليل أمهوى
ماشي لجرحه مداوي…»!
شعراء ومنشدون
تنقسم ألوان الشعر الشعبي إلى أربعة: المزيب، الركبي، المعنوي أو المريسي وهذا اللون الأخير كان غناؤه مقصوراً على شريحة المرايسة (المزاينة)، وهناك أيضاً الموال التهامي. وينقسم الشعر من حيث انتسابه الجغرافي إلى قسمين: شامي- شمالي ويماني.
أما الإنشاد فظاهرة أصيلة بدأت تنكمش، وكانت هناك أسر عرفت وتوارثت الإنشاد في الحضرات المخصصة لهذا الغرض، منها الآن أسرة آل حبيب، وأسرة شرعان، ولايزال الإنشاد تقام جلساته إلى اليوم، ولكن في المنازل في ما تعرف بـ»الموالد»، وهي قصائد مطولة في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والثناء عليه.
ويسمى المغني أو المنشد في العامية التهامية «المُقَصْودْ»، وهو يؤدي القصيدة باللحن فقط، دون مصاحبة آلات أخرى عدا الدفوف في العادة.
حارات وحروب
في زبيد أربع حارات أو أحياء رئيسية هي: العلي، الجامع، حارة الجزع، المجمبذ. وكان لكل حارة منها سوق محظور في فترة من الفترات على سكان الحارات الأخرى دخوله بسبب الحرب التي كانت تنشب بين سكانها والتي عرفت بحروب «الفرغ»، ولزبيد أربعة أسماء شهيرة هي: الغراء، الحصيب، الأفذاذ، مدينة العلم والعلماء.
علماء ولكن نساء
عرفت زبيد في مجال العلم أسماء شهيرة لنساء برزن في مجالاته المختلفة، ومن تلك الأسماء فتاة حمزة بن عبدالله الناشري، أسماء بنت موسى الضجاعي، وعائشة الطنبداوي.
أربطة ومساجد
لم يبق من مساجد المدينة اليوم سوى ثمانين مسجداً أشهرها: الأشاعر، الاسكندرية، الكمالية، البيشية، علي يوسف، الماس، النجم، الأحمرية، العليا والسفلى، العلوية، الطيرة، البرم، والخطوة.. أما أربطتها فرباط الإدريسي، رباط علي يوسف الأعلى والأسفل، رباط البطاح ومقصورة الفرحانية، ومقصورة الغصينية.. ومن بعض الكتب التي كانت الأربطة تقوم بتدريسها، سفينة النجا، الفرائض، متن الرحيبة، متن الزبد، ومتن الأجرومية.
واشتهرت زبيد بمنهج خاص في تدريس النحو من حيث قواعده ومسائله، حتى أطلق عليها لقب «المدرسة الثالثة» إلحاقاً بمدرستي البصرة والكوفة النحويتين.
وكان في زبيد -في وقت من الأوقات- حوالى مائتي عالم من آل الناشري فقط، يتولون تدريس الطلبة ومنح إجازات للمتخرجين منهم، واشتهر علماء الأربطة والمدارس الزبيدية بالتعفف عن الأخذ من السلاطين والولاة أو قبول أعطياتهم، واكتفوا بما كان مخصصاً لهم من ريع الأوقاف.
يشكو أهالي زبيد اليوم من ضياع هذه الأوقاف والبسط عليها من قبل مسؤولين ونافذين!
المصدر صلاح الدكاك / لا ميديا