نشوان دماج / لا ميديا -
بعض المهن أو المهام تستمد حيويتها من كونها ارتبطت بتراث وتقاليد معينة بحيث أصبحت لدى الناس بمثابة طقس من الطقوس التي ألفوها واعتادوا عليها، فإذا غابت أو حل مكانها شيء آخر، افتقدوها وحنوا إليها، كنوع من الحنين لكل ماضٍ عند الإنسان. ومهنة "المسحراتي" تأتي في مقدمة تلك المهن، إن لم تكن أبرزها على الإطلاق، لما لها من مكانة خاصة في ذاكرة الناس بسبب ارتباطها بالشهر الفضيل.
"المسحراتي"، الرجل الذي عادة ما يرتدي عمامة كبيرة وزياً شعبياً، ويجوب بقدميه شوارع وأزقة هذه المدينة أو تلك، بصوت جهوري ونقرات على طبلة صغيرة (تسمى البازة) يحملها على رقبته، مردداً عبارات ذات كلمات متناغمة شعرياً، كـ"اصح يا نايم.. وحد الدايم"، أو "اصح يا غفلان وحّد الرحمن.. أسعد الله لياليك"، أو "قوموا كلوا.. قوموا تسحروا"، والتي من خلالها يوقظ الناس من أجل تذكيرهم بموعد السحور، هذا الرجل أصبح جزءاً لا يتجزأ من التقاليد الرمضانية في كثير من المدن والبلدان العربية والإسلامية، ووقع كلماته، متناغمة مع قرعـت الطبلة، يغدو جزءاً من طقس الصيام نفسه، ولا يقل أهمية حتى عن أذان الفجر، موعد الإمساك.

من العصا إلى "البازة"
كلمة "مسحراتـي" مشتقــة مـــن "سَحُور"؛ و"السّحُور" في كتب اللغة: ما يُؤكل ويُشرب في السَّحَر، أي قبل طلوع الفجر، للاستعداد لصيام اليوم التالي.
وفق مصادر تاريخية، فإن تاريخ وظيفة المسحراتي يعود إلى بداية التاريخ الإسلامي، حيث كان الصحابي الجليل بلال بن رباح معتاداً على الخروج قبل صلاة الفجر بصحبة ابن أم مكتوم، لإيقاظ الناس.
وبحسب شيماء الصعيدي، الباحثة في مشروع أطلس المأثورات الشعبية المصرية التابع لوزارة الثقافة بمصر، فإن مهنة المسحراتي ظهرت في عصر الدولة العباسية، وبالتحديد في عهد الخليفة المنتصر بالله. ويُعد والي مصر العباسي إسحاق بن عقبة أول من طاف شوارع القاهرة لإيقاظ أهلها لتناول طعام السحور. كان ذلك عام 238 هجرية. وفي عصر الدولة الفاطمية، كان الجنود يمرون على المنازل، ويدقون أبوابها، حتى تم تعيين رجل للقيام بتلك المهمة، وأطلقوا عليه اسم "المسحراتي"، فكان يقرع الأبواب بعصاه قائلاً: "يا أهل الله قوموا تسحروا".
وفي عهد الناصر محمد بن قلاوون، ظهرت طائفة المسحراتية، التي أسسها أبو بكر محمد بن عبدالغني، الشهير بابن نقطة، حيث تطورت مهنة المسحراتي على يده، وأصبح يشدو بأشعار شعبية وقصص من الملاحم، وزجل خاص بهذه المناسبة. وقد انتشرت مهنة المسحراتي من مصر الفاطمية والمملوكية، إلى بقية أرجاء الدول العربية، ومنها اليمن ودول الخليج.

شهر في السنة
من المعروف أن المسحراتي يقتصر عمله على شهر رمضان فقط، أي أنها المهنة الوحيدة التي يعمل صاحبها شهراً واحداً في السنة، وبعدها يستريح حتى العام المقبل.

أشهر مسحراتيي العصر الحديث
يعد الموسيقار الراحل الشيخ سيد مكاوي أشهر مسحراتي في العصر الحديث على امتداد الساحة العربية، حيث كان يقدِّم إبداعه عبر الإذاعة المصرية على هيئة مقطوعات زجلية للشاعر الكبير فؤاد حداد.

تسميات مختلفة
"المفلح"، "النفار"، "المسحر"، "أبو طبلة"... تسميات عُرف بها المسحراتي عبر مراحل مختلفة، كما عُرف بصور ومظاهر متنوعة بين الدول العربية والإسلامية، سواء من حيث الترديدات الكلامية، أو من ناحية هيئته وأدواته، والتي منها الطبلة والطاسة والمزمار والدف... الخ. في مصر يرتدي المسحراتي جلبابا يمسك بـ"طبلة" في يده وعصا رفيعة يطوف مختلف الشوارع والأزقة، مردداً عبارات مسجوعة وأقاويل في مدح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. أما في مكة المكرمة فيعرف من يتولى هذه المهمة بـ"المسحر"، وهو يجول في مختلف المناطق ينادي المسلمين بأسمائهم، وتكون نداءاته مصحوبة بلقب "الكريم"، كما أنه يحرص على إيقاظ الأطفال لتناول وجبة السحور، ودائما ما يمرون في أول أيام عيد الفطر على المنازل للحصول على "العيدية”.
وفي القدس، رغم وطأة الاحتلال الصهيوني وتضييقه الخناق بشكل مستمر على السكان، إلا أن أبناء المدينة حريصون على تواجد المسحراتي في طقوسهم الرمضانية، حيث يتولى المهمة أربعة شبان، يرتدون زياً موحداً يمثل التراث الفلسطيني، ويحرصون على القيام بمهنة المسحراتي دون خوف. وهو ما يحدث أيضا في قطاع غزة.
وفي لبنان تتميز مهنة المسحراتي بأداء فني، وتضم فرقة من عدة أشخاص، يحمل أفرادها آلاتهم الموسيقية ويجوبون الشوارع، مرددين ابتهالات وأذكاراً توارثوها. وأهم الآلات التي تستخدم هي "الدف". ويطلق البغدادويون على المسحراتي "أبو الطبل"، وهذه المهنة يتم توارثها عبر الأجيال، ولكل منطقة في بغداد مسحراتي يتولى أمرها.
وفي المغرب يعرف المسحراتي بـ"النفار" لأنه يعتمد على أداة نفخ نحاسية طويلة، ويتواجد بين أهل القرى والأحياء الشعبية. وفي السودان يطرق المسحراتي أبواب المنازل ومعه طفل صغير يحمل الفانوس وورق كتب فيها أسماء أهل الحي لينادي كل واحد باسمه.

في اليمن
تعد صنعاء وحضرموت أشهر محافظتين يمنيتين عرفتا مهنة المسحراتي، وظلت تلك المهنة حاضرة بقوة في تفاصيل حياتهما الرمضانية الممزوجة بكل الطقوس الجميلة.
غير أن صنعاء -للأسف- استسلمت، في غفلة منها كما يبدو، لتكنولوجيا الفضائيات والسهر حتى ساعات الصباح الأولى، فانقرض صوت المسحراتي من شوارعها وأزقتها (كانت آخر مرة ظهر فيها المسحراتي في أواخر تسعينيات القرن الماضي) وأصبح المؤذن هو الذي يؤدي دور "المسحراتي"، بتسبيحات ثلاث من مآذن المدينة العتيقة، يُذكر فيها الناس بتناول "غداء رمضان"، كما كان أهل صنعاء يطلقون على طعام السحور.
من أشهر الشخصيات التي عرفتها صنعاء حتى ذلك الوقت، قبل أن تنقرض مهنة المسحراتي، عبدالله سنبل، وراجح الحارس، والحرازي. وكان التجار والميسورون مالياً يتكفلون بتقديم الطعام للمسحراتي، والمكافآت المالية خلال أيام شهر رمضان.
وإذا كانت صنعاء العاصمة قد تخلت عن ذلك الطقس، مواكبةً منها لـ"التطور" أو أنها لم تعد ترى في مهنة المسحراتي إلا موضة قديمة لا أحد من الأجيال الجديدة مستعد أن يتوارثها، متخلية بذلك عن طقس من طقوسها الأنيقة، فإن حضرموت تصر على التشبث بوجود المسحراتي في عدد من مدنها، وبالذات مدينتي شبام وتريم، بحيث لا يمكن أن تتخلى عن ذلك الطقس بسهولة. كما أنها أطلقت على المسحراتي اسماً آخر هو "المُفَلِّح"، مشتقاً من "الفلاح" (الاسم الذي يطلقه السكان على وجبة السحور).
يجوب "المفلح" شوارع وأزقة منطقته، في تمام الساعة الثالثة من كل ليلة من ليالي رمضان، حاملاً "الطاسة" على رقبته وفي يديه أعواد يقرع بها على الطاسة، ليكسر سكون الليل معلناً بدء وقت السحور.
فرغم أدوات التنبيه العصرية لا يزال سكان حضرموت يعتمدون في الاستيقاظ للسحور على إيقاعات "المُفلّح"، المهنة التي تتوارثها في أي من مدنهم الكبيرة عائلة معينة. فآل "خراز"، مثلاً، هم العائلة التي تتوارث مهنة المفلح في شبام منذ أربعة قرون. وفي مدينة سيئون تمارس عائلة آل باصالح هذا التقليد الرمضاني، منذ القدم وحتى اليوم. أما في منطقة "الغرف"، إحدى ضواحي مدينة تريم، فلا تزال عائلة آل بن حميد تحافظ على تولي ذلك الطقس الذي تعتبره حقا من حقوقها أباً عن جد.. يبدأ المفلح مهمته في الموعد ذاته من كل ليلة، وينطلق عبر خط سير محدد كان يمشي عليه أجداده، حاملاً آلة إيقاعية تسمى "الهاجر" أو "الطاسة"، ليجوب كل الأحياء في منطقتــــــه. وأثناء مروره في الأزقة والممرات بين المنــــازل، يحرص الأطفـــال على مرافقته وترديد الأهازيج والأبيـــات الشعرية معه.