القاضي محمد الباشق / لا ميديا -
إن من يتأمل في الواقع المعاش على الأرض يرى الحروب والأزمات والمشاكل الكثيرة التي لا تخفى على أحد، وفي الوقت نفسه يرى الأعراس والأفراح وحالات اللطف والعون، ويجد أن من علق قلبه بأي شيء غير الله وجد ضنك الحياة وعذاب القلب، فالقلب المعلق بغير الله قلب معذب، لذا فإن البشرى والبشارة والاستبشار تأتي من عدة أوجه ونِعَم.
أود الحديث في هذه الحلقة عن تشريف الله لنا نحن البشر، إذ جعلنا أهلا لتلاوة كلامه، وننعم بشرف السجود له وحده سبحانه وتعالى. ورحم الله القائل:
ومما زادني شرفاً وفخراً
وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي
وأن سيّرت أحمد لي نبيا
لذا فعندما ننظر من أين تأتي لنا البشرى نجدها في الكون، وفي القرآن الكريم، وعلى لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومنهجه ومن الملائكة. وإن المبشِّر أولاً هو الله سبحانه وتعالى، وهذه أعظم وأكبر المنن، أن يبشرنا الله العلي العظيم المهيمن العزيز الحي القيوم الدائم جل شأنه.
ولنقف في هذه الحلقة في رحاب قوله تعالى: {يبشرهم ربهم برحمة منه}، وفضل الرحمة التي هي هدف الخلق الأسمى والمنة العظمى، بل أسبغ الله نعمه على سيدنا رسول الله فوصفه بأن هدف إرساله للعالمين رحمة، قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، لأن الرحمة أصلاً من الله، وربك الغني ذو الرحمة.
وجاءت الرحمة بمعنى المغفرة والعفو: {فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة}. والمغفرة والعفو جنة الدنيا. ولسعة الرحمة نجدها أيضاً وصفا للجنة دار ضيافة الله، بدليل: {يرجون رحمة الله}، وأعظم الرجاء الطموح في الجنة. والرحمة الطريق الموصل للعباد إلى الله بمنهج النبوة، فسمى الله النبوة رحمة: {أهم يقسمون رحمة ربك}.
والرحمة تعم وتشمل كل نعمة وكل خير وكل رزق: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها}. والنصر رحمة، ولها تخصيص بالبشرى، وإن شاء الله نتحدث عن هذا الموضوع في حلقة خاصة. بل إن القرآن الكريم كله رحمة، وصف الله كتابه بالرحمة في آيات كثيرة، مع وصف الهداية والحكمة والمجد والنور والبصائر والبشرى أيضاً. وسماع الدعاء سماع إجابة رحمة. انظر أول سورة مريم قوله تعالى: {ذكر رحمة ربك عبده زكريا}. والثواب والعلاقات الطيبة بين الناس رحمة. والود بين الزوجين رحمة. والحفظ من المعاصي رحمة. تأمل في سورة يوسف آية {إلا من رحم ربي}.
فالبشرى بالرحمة من ربنا الرحمن الرحيم أرحم الراحمين تتسع لتشمل أسير الذنوب. فمن سعة رحمة الله أن خاطب المسرفين، وهي كلمة تتسع لتشمل من أسرف في ارتكاب ذنب واحد بطول زمن وتكرار كثير وصل حد الإسراف، أو أسرف في ارتكاب عدد من الذنوب والمعاصي والسيئات، فخاطبهم وبشرهم برحمته لهم ليعودوا إلى ربهم: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله}. ورحم الله القائل:
إن كان يونس قد ناداك معترفاً
بذنبه عندما أدخلته الظلما
فالجهل كالليل والبحر المحيط هو
الدنيا وجسمي هو الحوت الذي التقما
فكل حين أنا العاصي المغاضب في
بحر الحظوظ غريق أشتكي الألما
فها أنا يونسٌ والعفو يؤنسني
أدعوك مبتهلاً فامنن وجُدْ كرما
اللهم صلِّ وسلم على رحمتك للعالمين سيدنا محمد وآله، وارحمنا به كما رحمتنا به عموماً فجعلتنا من أمته، وارحمنا به خصوصاً بنعمة رؤيته، وتفضل يا ذا الفضل العظيم بقبول صلاتنا عليه وآله في كل وقت وحين.
المصدر القاضي محمد الباشق / لا ميديا