حاوره:أنور عون / لا ميديا -
كان مضر السقاف قائد أوركسترا كروية يضبط إيقاع اللعب ويوزع ألحانه بثقة ومهارة؛ لا، لا، بل هو في أرضية الملعب بابلو بيكاسو، بلمسات آسرة يرسم لوحات من الإبهار، رأسه المرفوع دائماً كان يمنحه رؤية متكاملة لما يجري حوله في اللعب، ويا عيني عندما يستقبل الكرة على صدره ويرسلها بلمح البصر هدفاً مباغتاً أو تمريرة قاتلة.
لقد كانت مشاهدته أشبه بارتشاف كوب من القهوة على صوت جارة القمر وهي تصدح "عودك رنان ـ عودك إلي".
ربما لم يحقق مضر، خلال مشواره الكروي الممتد من منتصف السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات، أي إنجاز يذكر؛ إلا أنه سكن القلوب والوجدان، وحتى بعد غيابه الطويل وتواريه عن الساحة الرياضية ظل استثنائياً أسطورياً مثل طائر الفينيق, ولذلك بحثنا عنه والتقيناه وإليكم خلاصة الحوار معه.

ليس هناك ما يغري للعودة
 قبل الإبحار في محيطك المليء باللآلئ والأصداف، نرحب بك ضيفاً على صفحات "لا" ونشكرك على فرصة الحوار معك!
- ولي الشرف أن أكون ضيفاً على صفحات هذا المنبر الرائع، الذي يعمل فيه صديقي المتألق طلال سفيان، بعد غياب طويل عن الظهور الإعلامي.
 كابتن، ليكن سؤال البداية عن سر غيابك وابتعادك عن الساحة الرياضية...؟
- ليس هناك أسرار. كل ما في الموضوع هو ظروف الحياة ومشاغلها، وأيضاً الأجواء الرياضية، فمنذ التسعينيات لم يكن هناك ما يغريني للعودة إلى الحقل الكروي.

تدربت مع الأسد
 خطواتك الأولى كانت طلعاوية، ثم لعبت لشعب صنعاء، وعدت بعدها إلى الطليعة... حدثنا عن قصتك فيها!
- من طفولتي وأنا أعشق الكرة. ورغم صغر سني كنت أطلع من حارتي، المدينة القديمة ـ المظفر، إلى ملعب الشهداء لمشاهدة المباريات، وتعلقت بها أكثر حينما كنت أرى علي الورقي، عبدالعزيز القاضي، جميل عبده سعيد، فاروق عبده قائد... ولطالما حلمت أن أصبح مثلهم. وخلال تلك الفترة كانت الحواري تعج بالفرق، فمثلاً كانت حارتنا تملك فريقا اسمه الأهلي، وكنت أحد عناصره، وفي إحدى مبارياتنا أمام فريق من منطقة باب موسى تألقت فيها، وعقب المباراة فوجئت بنجمي الطليعة الكبيرين، اللذين كنت أشجعهما في ملعب الشهداء، جميل عبده سعيد وفاروق عبده قائد، يأخذانني إلى الأستوديو لتصويري ثم تسجيلي في النادي، وتدربت في فئة الناشئين مع زملائي أمين علي ناجي، عبدالناصر محسن، فوزي غالب، وعبدالله الأسد (بيليه) الذي كان لديه فريق قوي في حارته اسمه "قلب الأسد". كان يشرف على تدريبنا الكابتن عبدالجليل جازم (رحمه الله)، وتدرجنا إلى أن وصلنا إلى فريق الرديف (الشباب).

عمل والدي أحزنني
 وكيف صعدت إلى الفريق الأول؟
- كنت فعلاً على وشك اللعب للفريق الأول؛ غير أن ظروف نقل عمل والدي إلى صنعاء ومغادرة الأسرة بالكامل أوقف حلمي وأصابني بالحزن.

من حواري التحرير إلى شباب الشعب
 وماذا حصل بعد ذلك؟
- عندما وجدت حواري صنعاء تكتظ بالفرق واللاعبين مثل تعز، ذهب حزني ولعبت مع فريق حارتي في التحرير. وهناك شاهدني نجم الشعب محمد حسن كالة، وعبدالرقيب الركب، وأخذاني إلى نادي الشعب، ومنحاني "بوتي" وملابس رياضية. لعبت مع فريق الشباب مباشرة بنادي الشعب، وابتسم لي القدر أكثر عندما أجري لنا في فريق الشباب اختبارات من أجل اختيار لاعب واحد فقط لضمه إلى الفريق الأول الذي كان يستعد للسفر إلى السعودية للمشاركة في دورة ودية أمام الهلال والاتفاق والأهلي، ووقع الاختيار عليّ، وسافرت مع الفريق إلى السعودية.

تألق وسط كوكبة نجوم
 قبل أن نتحدث عن تلك المشاركة، صف لنا شعورك وأنت تلعب لأول مرة مع عمالقة الشعب!
- شعرت برهبة وقلق؛ إذ كيف سألعب بجانب نجوم بحجم عادل مقيدح، جواد محسن، محمد حسن كالة، أبو بكر وسالم عبدالرحمن، شفيق الحكلاني، حسين عبدالرحمن، يحيى محمد أحمد الشهير بالمدرعات لقوته، عبدالملك فوز، ومعهم يحيى جلاعم، صالح الوسع، وجميل عبده سعيد، الذين تم الاستعانة بهم من أنديتهم، إلى جانب يحيى فارع الذي كان يلعب مع الشباب السعودي؟!
ومن نجوميتهم وصغر سني شجعوني، فتألقت من الوهلة الأولى أمام الهلال السعودي ثم الاتفاق، لدرجة أن صحيفة "عكاظ" أفردت لي مساحة من الإشادة.

موقف عزة وإباء
 وماذا عن المباراة الأخيرة أمام أهلي جدة؟
- حدثت مشكلة ولم نلعبها؛ فبينما كنا نستعد في بهو الفندق للذهاب إلى ملعب المباراة، إذا بأحد السعوديين المنتسبين لأهلي جدة يستفزنا بعبارات سخرية، الأمر الذي أثار غضبنا، فقام كابتن فريقنا، يحيى مدرعات، بشتم هذا السعودي وإهانته والبصق عليه، وعلى الفور غادرنا إلى المطار ثم إلى صنعاء. وهنا نلاحظ عزة وإباء وأنفة اليمني، سواء في ملاعب الكرة أو في ميادين القتال.

لاعب طلعاوي في الجحملية
 كم لعبت مع الشعب؟ وكيف عدت إلى الطليعة؟
- لعبت له موسمين فقط، حيث عاد والدي إلى عمله في تعز، فعدت إلى الطليعة مباشرة، رغم أن سكني هذه المرة كان في الجحملية، وكان الكابتن الكبير عبدالعزيز القاضي يقول لي: الطليعة بعيد، والأهلي أقرب لك، تعال العب معنا!

معركة أمام بوابة الشهداء
 ونحن نتحدث عن الأهلي والطليعة لا يمكن أن نغفل ديربي الحالمة الشهير. ما هي ذكرياتك عنه؟
- يااااااه! مثير، مدهش، وعنيف! مدرجات ممتلئة من وقت الظهر، آهات ودموع وفرح ودماء... وكان الأكثر إثارة ديربي موسم 83؛ كنا متقدمين على الأهلي 2-1، وبينما المباراة تلفظ أنفاسها وجمهورنا بدأ يخرج مبتهجاً: "طلعاوي، طلعاوي..."، باعتبارنا فائزين، إذا بحارسنا الأساسي عبدالله أسعد يخرج مصاباً وينزل البديل ناجي أحمد حسن، وتتحول النتيجة، وانتهت المباراة 3-2 للأهلي، وخيم الذهول والحزن علينا، واستقللنا الباص للخروج من الملعب، وبدأ جمهور الأهلي يلتف حول الباص ويهتف ضدنا، وكسروا النافذة الخلفية للباص، وحدثت معركة معهم أدت لإصابة عبدالحميد الشاوش وسالت دماؤه أمام بوابة الشهداء.
 وكيف كانت علاقة لاعبي الفريقين عقب كل ديربي؟
- كنا زملاء وإخوة عقب المباراة ننسى العنف والقوة والفوز أو الخسارة، ونلتقي في المساء لتناول وجبة العشاء ونتمشى معاً.

عنوان رياضة الحالمة
 الصقر كان يضم نجوما كبارا ويقارع الأهلي والطليعة أحياناً...؟
- نعم، كان لديه مجموعة رائعة: محمد درهم، أحمد ناصر، منيف عطا، أحمد الشميري، خالد محمد علي، علي هزاع، نبيل مكرم، عبدالناصر الحلالي، عادل سعيد، عبدالواحد عتيق... لكن مع احترامي لهم، كان الأهلي والطليعة عنوان رياضة الحالمة الأبرز والأجمل.

للمتعة فقط
 كابتن، لو تكلمنا بصراحة، الأهلي هو الأبرز، منافسا وبطلا، أما الطليعة فلا يتعدى المركز الخامس...؟
- لا جدال، الأهلي فريق عظيم، الحماس والجمهور والإدارة؛ لكن فريقنا هو الأكثر مهارة وقدرات كأفراد.
 ولماذا لم تحققوا أي لقب أو حتى تنافسوا؟
- لأسباب عديدة، أهمها أننا كنا في الطليعة من الإدارة والجهاز الفني واللاعبين وحتى سواق الباص، من يغير ويضع التشكيلات، بعضنا يتدرب أحيانا ويحضر ويلعب أيضاً. كنا نلعب للمتعة والإمتاع على حساب النتائج. وصدقني، لو كانت لدينا منظومة إدارية وفنية أقوى من اللاعبين، كنا سنحتكر البطولات لعدة سنوات. وللتدليل على ذلك، ذات مرة لعبنا أمام أهلي صنعاء مباراتين في أسبوع، خسرنا الأولى في الشهداء 5-2، وعقب المباراة قررنا كلاعبين ألا نعود إلى منازلنا، ودخلنا معسكرا مغلقا لمدة ثلاثة أيام، وغادرنا إلى صنعاء وفزنا على الأهلي بالنتيجة نفسها 5-2.

خدعت الحمامي لأجل "الشباب"
 وحكايتك مع المنتخبات، كيف كانت؟
- البداية كانت مع منتخب الشباب بمعسكرنا في صنعاء. وقبل السعي للمشاركة جاءتني فرصة عمل خارج البلاد، فتركت المعسكر وسافرت أطلب الله؛ لكني لم أستمر وعدت إلى الوطن واللعب من جديد. ثم كانت مشاركتي في بطولة أقيمت في ليبيا، وبمجرد وصولنا إلى طرابلس جاءنا نبأ استشهاد الرئيس إبراهيم الحمدي، ولم نلعب أي مباراة، حتى انتهت البطولة. وفي تلك الليلة حضر إلينا معمر القذافي لمواساتنا وفتح أمامنا أبواب كل شيء بالمجان. وبعد انتهاء البطولة سافرنا إلى القاهرة بطائرة خاصة. وأذكر أن القذافي شتم الحكام العرب ومؤامراتهم. لحظات لا أنساها؛ الكل كان حزينا، حتى لاعبو المنتخبات المشاركة.
وكانت مشاركتي الثالثة والأخيرة في النيبال، وكان المنتخب يضم عمالقة، خاصة في خط الوسط، ولم يتبق في غربلة اللاعبين سواي أنا ولاعب شعب إب الرائع محمد الحمامي، وأحد منا سيتم استبعاده، وخشيت أن أخرج من الحسبة، فقلت للحمامي: الوضع غير مطمئن، وشكلهم سيستبعدون واحدا منا، أنا أو أنت، ما رأيك نغادر المعسكر ونعود أدراجنا؟ فوافق وسافرنا ونزل هو في إب، وكان المفروض أن أستمر أنا إلى تعز؛ لكني نزلت بعد دقائق من فوق البيجوت وعدت إلى المعسكر في صنعاء وسافرت مع المنتخب، وهزمنا جزر القمر والهند، وخسرنا من البحرين.


وصفة للنهوض
 الكرة اليمنية تراجعت عما كانت عليه في عهدكم، ما هي روشتتك للنهوض بها؟
- المسألة بسيطة جداً، تبدأ بحسن النوايا والضمير، إقامة المسابقات بانتظام لجميع الفئات العمرية، تأهيل المدربين، اختيار الأجهزة الفنية للمنتخبات وفق معايير الكفاءة، والتدقيق في اختيار مدربي الفئات العمرية في الأندية. هذه نواة البداية.

مباريات لا تنسى
 مباراة لا تزال عالقة في ذهن الكابتن مضر؟
- أمام شعب صنعاء في الشهداء، لأنها خرجت بـ11 هدفا؛ 7-4 لصالح الشعب. متعة كروية بين نجوم ثقال جداً، نحرز هدفا ويحرزون هدفين، نسجل هدفا فيسجلون ثلاثة، ومشكلتنا كانت في الدفاع؛ مدافعنا الصلب سميح كان مصرا على "الدبل كيك" طول المباراة، ولولاه لكانت النتيجة 4-4 على الأكثر. أيضاً لا أنسى مباراتنا أمام أهلي الحديدة المطرز بالنجوم، والتي انتهت 4-2 لصالحنا، وتألق فيها صلاح السيد، وتم اختياره للمنتخب؛ لكن المجاملات كالعادة أعادته من المطار قبل السفر واستبدل به لاعب أقل مستوى من أحد أندية العاصمة.
كذلك مباراتنا مع الصقر ولحظة أخذ مدافعنا القوي حيدر علي صالح العراسي لمهاجم الصقر الكوكباني الذي كان منطلقا بسرعة جنونية، حتى أن الكوكباني من لفة حيدر طار جوا ونزل إلى حضن عبدالعزيز مجدر مدرب الصقر.

القربة يذهل جمال حمدي
 حدثنا عن زميلك علي القربة وحكايته مع البوتي السيبو؟
- (ضاحكا) حكايتك كثيرة! طبعاً القربة ملك السيبو، لا يستطيع اللعب إلا بها، وكانت أبرز نوادره أمام المجد، قبل المباراة حضر إلى الملعب بفردتين يمين، سألناه: أين الفردة اليسار، فقال: لم أجدها، سألعب بهاتين الفردتين، ولعب وفزنا 3-1 وأحرز هدفين خرافيين جعلت جمال حمدي مذهولا يضرب كفاً بكف. القربة كان مهاجما سريعا جداً، إذا لعب بالسيبو لا ترى بعده إلا الريح.

الشاوش ذكي وعديني ساحر
 تمريرات مضر كانت دقيقة جداً، من المهاجم الذي كان يفهمك؟
- عبدالحميد الشاوش، كان يفهمني قبل أن أفكر في التمرير، وصدقني لو كان من لعبوا أمامي يمتلكون الحظ لاحتكروا لقب هداف الدوري.
 ومن هو اللاعب الذي رأيته فيك عقب اعتزالك؟
- أنور عديني، نجم أهلي الحديدة، فنان ومبدع جداً، يطربك ويسحرك بأدائه.

ظروف أسرية
 يقول بعض زملائك إنك توقفت مبكراً، وأيضاً رغم مستواك المذهل إلّا أنك لم تقدم ما يوازي موهبتك، لماذا؟
- صحيح، سفري للعمل ثم عودتي، وظروف أسرية، ومشاغل كثيرة كانت تفقدني التركيز في المباراة والتمارين، ولولا ذلك لاستمررت في اللعب سنوات أكثر، ولما توقفت عام 86.

مريسي أفضل مدرب والورقي لا يتكرر
 المدرب الأفضل...؟
- علي محسن مريسي، كان يعطينا في كل تمرين شيئا جديدا، وأيضاً مقبل الصلوي.
 من هو مضر السقاف؟
- مضر علي بن علي السقاف، أب لولدين، ماهر ومروان.
 أفضل لاعب في تاريخ الكرة اليمنية من وجهة نظرك...؟
- علي الورقي، لا يمكن أن يتكرر، فلتة بكل معنى الكلمة؛ لكنه اختار العمل وترك الكرة، وأثناء عمله في السعودية بمخرطة صيانة شاهدوه يلعب في أوقات فراغه، وحضر مسؤولو النصر السعودي لمفاوضته؛ لكنه رفض ورد بحسم: لو كنت أريد اللعب فسألعب في بلدي.

الظرافي وفوز أروع الحراس
 ومن هو الحارس الأروع؟
- يحيى الظرافي، وعبدالملك فوز، ومن قصص تألق عبدالملك أنه في مباراة بين أهلي تعز وشعب صنعاء في الظرافي، وقبل المباراة قال عبدالملك للاعبي الشعب: تريدون المباراة؟ سأفتح لكم المرمى، بشرط... فرد عادل مقيدح نجم الشعب: سنأخذها غصباً عنك داخل الملعب. فرد عبدالملك: أتحداكم! وبالفعل صد عبدالملك فوز عدة انفرادات شعباوية، منها ثلاثة لعادل مقيدح، وتسديدة جنونية لعلي الورقي طار لها من الجهة اليمنى إلى المقص الأيسر، صفق من روعتها الجمهور وعلي الورقي نفسه، وفاز أهلي تعز يومها.
 وماذا عن المدافعين؟
- جواد محسن ومحمد الحمامي (نيخا) لم يتكررا حتى يومنا هذا. محمد طه أيضا ظهير مدافع مذهل.

موهبة مظلومة
 لاعب موهوب ظُلم...؟
- بدر النهمي، ظلم نفسه بنفسه. جاء على محسن مريسي لتدريب الطليعة، وهو يعرف موهبة النهمي، وكان منقطعا عن التمارين، فقال لي: أحضر بدر، وسوف أفجر به قنبلة على مستوى الجزيرة العربية. وحضر وتدرب فترة، وفجأة صرخ علي محسن في وجهي قائلاً: خلاص، لا أريد بدر النهمي، لأنه غير ملتزم.