فهد شاكر أبو راس

فهد شاكر أبوراس / لا ميديا -
في قلب التحول الرقمي العالمي الذي وعد بالانفتاح والتواصل، يولد كابوسٌ جديدٌ يُهدد خصوصية وسيادة الأمم، حيث تتحول الشاشات الصغيرة في أيدي الملايين إلى نوافذ
 خفية للتجسس والاختراق المنظم.
تكشف الأدلة المتسارعة عن معركة خفية تدور رحاها في الفضاء الإلكتروني، معركة تُسلط فيها أحدث أدوات التكنولوجيا ضد إرادة الشعوب وحقها الأساسي في الأمان الرقمي.
وفي هذا المشهد المعقد، تبرز أداة "علاء الدين" كرمز صارخ لهذا التهديد المتطور، حيث تحولت الحروب الاستخباراتية من العمل في الظل إلى التوغل المباشر في جيوب وبيوت ومكاتب الصحفيين والناشطين وصناع القرار في العالم العربي عبر ثغرات خبيثة في أكثر أجهزتهم الشخصية حميمية.
لم يعد هذا الاختراق يتطلب نقراً على رابط مريب، بل صار يكفي ظهور إعلان عابر على منصة اجتماعية كـ"فيسبوك" أو "جوجل"، إعلان يبدو بريئاً لكنه يحمل في شفراته قنبلة موقوتة من نوع "زيرو كليك" تستغل ثغرات "زيرو داي" المجهولة في أنظمة "أندرويد" و"iOS" لتمنح المهاجمين، وهم جهات ترتبط تقارير استخباراتية عديدة بالكيان الصهيوني، بوابة ملكية إلى كل محتويات الجهاز.
هذه ليست هجمات عشوائية، بل هي حملة ممنهجة تشنها آلة حرب سيبرانية متطورة ترتدي قناع شركة إعلانات، تستهدف بشكل واضح وصريح النخب الفكرية والإعلامية والحقوقية في دول عربية وإسلامية محددة في محاولة واضحة لفرض واقع رقابي جديد وكسر شوكة الرأي العام ومراقبة تحركاته.
إنها حرب غير متماثلة بامتياز، حيث توظف تقنيات خارقة مدعومة بتمويل ودعم لوجستي ضخم، لاستهداف الأفراد والمجتمعات المدنية، في انتهاك سافر لكل المواثيق الدولية التي تحظر استهداف المدنيين حتى في فضاءات الحرب التقليدية.
الآلية تقشعر لها الأبدان في بساطتها المرعبة: إعلان رقمي مدفوع الثمن يشتريه مهاجم عبر واجهات في دول معادية، لينتقل إلى جهاز الضحية دون أي تفاعل، ويفتح الباب على مصراعيه أمام الوصول إلى كل الصور والرسائل النصية وحتى المحادثات في التطبيقات المشفرة ومنها واتساب وفيسبوك وتيليجرام، والقدرة على تشغيل الكاميرا والميكروفون وتتبع الموقع الجغرافي.
إنه اختراق كامل للسيادة الشخصية والوطنية، يجعل من الفرد العربي كتاباً مفتوحاً أمام أجهزة الاستخبارات المعادية.
وفي وجه هذا الغزو السيبراني الخطير، يتجلى تقاعس فاضح من عمالقة التكنولوجيا الذين يحتفظون ببياناتنا، فمنصات مثل "جوجل" و"واتساب" و"فيسبوك" وغيرها من المنصات تتحمل مسؤولية أخلاقية وقانونية جسيمة في تمكين هذه الهجمات، فهي تبيع مساحات إعلانية دون فحص دقيق، وتجمع بيانات مستخدميها بشراهة لتبيعها لمعلنين مجهولين، وتتعامل بتراخٍ مع سد الثغرات الأمنية التي تكتشفها شركات الأمن، مما يخلق بيئة خصبة لانتشار هذه الأسلحة الرقمية.
وهذا التقاعس ليس بريئاً، بل هو جزء من معادلة استعمارية جديدة حيث تصبح بيانات ومفاتيح أمن الشعوب سلعة رخيصة في سوق مفتوحة.
أما على الجانب العربي، فإن التحدي مضاعف: بنى تحتية سيبرانية ما زالت في طور النمو، وأجهزة أمنية تقليدية عاجزة عن مطاردة برمجيات خبيثة متطورة تتخفى في هيئة حركة بيانات عادية، واكتشاف للهجمات غالباً ما يأتي بعد فوات الأوان، أي بعد نجاح الاختراق وتسرب المعلومات الحساسة.
ومن هنا، تبرز معركة المقاومة الرقمية ليس كخيار، بل كضرورة وجودية وواجب ديني وطني وقومي. فالمواجهة تتطلب صحوة شاملة تبدأ من الفرد وتصل إلى أعلى هرم الدولة.
فعلى المستوى الحكومي، يجب أن يتحول بناء السيادة الرقمية إلى أولوية قصوى، عبر إنشاء مؤسسات سيبرانية وطنية وإقليمية متخصصة في المراقبة والتحليل والاستباق والاستجابة، مع سن قوانين صارمة تجرم التساهل في حماية البيانات وتمنح الأجهزة المختصة أدوات الرقابة الفعالة على حركة البيانات الداخلة إلى الشبكات الوطنية، وتطوير حلول أمنية محلية تخفض الاعتماد على أنظمة قد تكون فيها أبواب خلفية.
وعلى مستوى المستخدم العربي، يصبح الوعي والتثقيف التقني سلاحاً في هذه المعركة، عبر تبني ممارسات مثل تخصيص أجهزة منفصلة للأنشطة الحساسة، واستخدام أدوات حجب الإعلانات والسكريبتات، وإعادة تشغيل الهاتف دورياً لإزالة البرمجيات الخبيثة من الذاكرة المؤقتة، وتجنب شبكات الواي فاي العامة غير الموثوقة.
خلاصة القول، إن ما تكشفه أداة "علاء الدين" هو مجرد غيض من فيض في حرب شاملة تمتد من الأرض إلى الفضاء الإلكتروني، بهدف إضعاف المناعة الداخلية للمجتمعات العربية والإسلامية وفرض الهيمنة عبر المراقبة الشاملة والسيطرة على المعلومات.
إنه استهداف متعمد لإرادة الشعوب وصناع رأيها. لذلك، فإن المقاومة الرقمية اليوم هي امتداد طبيعي لكل أشكال المقاومة، تقوم على التوعية الفردية المسلحة بالمعرفة، والتطوير التقني المحلي المستقل، والتعاون العربي المشترك الجاد، والضغط الدولي لفرض رقابة صارمة على أنشطة الشركات التقنية العالمية في منطقتنا.
ففي عصر أصبحت فيه البيانات هي القوة والسلطة والسيادة، فإن حماية هذه البيانات تصبح معركة مصيرية من معارك الكرامة والحرية.

أترك تعليقاً

التعليقات