فهد شاكر أبو راس

فهد شاكر أبوراس / لا ميديا -
إن حصيلة الخروقات «الإسرائيلية» في قطاع غزة، والتي تشمل تقطير المساعدات إلى حد المجاعة، ومنع إدخال الكرفانات مع دخول الشتاء القارس، وترك أكثر من 1.5 مليون نازح أمام العواصف، هي تنفيذ حرفي ومتعمد لسياسة الإخضاع والتجويع المعلنة، والتي تُعد أداة لتحقيق هدف أبعد: إعادة هندسة الواقع الفلسطيني برمته، وجعل الحياة مستحيلة، لتحقيق التهجير القسري، وهو ما تُصنفه التقارير الدولية كجريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية ترقى إلى الفعل الإبادي.
وهنا يكمن جوهر النوايا الصهيونية، التي تختفي وراء ذرائع «الأمن» و»الضرورة العسكرية»، إذ يتم توظيف المعاناة الإنسانية المباشرة كسلاح ضغط جماعي لتحقيق مكاسب سياسية وجغرافية دائمة.
ففي قطاع غزة، تتجلى هذه الهندسة من خلال مخططات «إسرائيلية» لـ»إعادة التموضع» و»المدينة الإنسانية». فخريطة الانسحاب «الإسرائيلية» التي عُرضت في المفاوضات، والمسربة إعلامياً، تكشف نية الاحتلال إبقاء سيطرته العسكرية على نحو 58% من أراضي القطاع، مع إقامة وتطوير ما لا يقل عن 40 موقعاً عسكرياً ثابتاً ونشطاً فيها.
والأخطر هو المخطط المطروح لإنشاء ما يُسمى «المدينة الإنسانية» في رفح، والذي وصفه محللون وصحفيون «إسرائيليون» أنفسهم بأنه أشبه بإنشاء «غيتو» أو «معسكر اعتقال» لتجميع مئات آلاف النازحين فيه، بحيث يُمنعون من العودة إلى ديارهم الأصلية في شمال وغرب القطاع، ولا يُسمح لهم بمغادرته إلا نحو التهجير النهائي خارج فلسطين.
هذا المخطط ليس إجراءً إنسانياً، بل هو آلية ممنهجة لتحويل التهجير الداخلي المؤقت إلى حالة نزوح قسري دائم، وبالتالي اقتطاع أجزاء حيوية من الأرض الفلسطينية وتفريغها من سكانها.
ويتزامن هذا المسار في غزة مع حملة موازية ومماثلة في الضفة الغربية، تكشف وحدة الرؤية الاستراتيجية، إذ إن عمليات الهدم المنهجية والشاملة لمخيمات مثل جنين وطولكرم، وتهجير عشرات الآلاف من سكانها، هدفها الحقيقي هو «إعادة هندسة الحيّز الفلسطيني» ومحو المعالم الرمزية والمادية للاجئين، إذ يتم تحويل المخيمات إلى أحياء عادية، وفرض شروط لعودة النازحين تشمل إلغاء دور وكالة «الأونروا» وتغيير تسمية المخيمات و»إعادة توطين» نصف سكانها خارجها.
وهذا مسعى استراتيجي واضح لتفكيك فكرة «حق العودة» عملياً ورمزياً، وهو ما يعتبره باحثون «إسرائيليون» ضرورياً لإنهاء الصراع لصالح الرواية الصهيونية.
إن تقطير المساعدات، وحرمان المستشفيات من الوقود، وترك الخيام المهترئة تحت الأمطار... كلها ليست إجراءات عشوائية، بل هي ضغوط متعمدة لدفع المجتمع نحو حافة الهاوية، وجعله أكثر قبولاً بـ»الحلول» الجذرية التي تفرضها «إسرائيل»، مثل القبول بالعيش في «غيتو» رفح أو بالهجرة «الطوعية».
وهذا النمط من السلوك هو ما قاد منظمات حقوقية دولية إلى استنتاج أن هناك أدلة كافية على قيام «إسرائيل» بأفعال تشكل «إبادة جماعية»، إذ تنفذ عمليات قتل جماعي وتسبب أذى جسدياً ونفسياً جسيماً وتفرض عمداً ظروف حياة تهدف إلى التدمير المادي للشعب الفلسطيني كجماعة.
في مواجهة هذه الاستراتيجية المعقدة التي تحارب الوجود والحق والجغرافيا والتاريخ، يبرز صمود المقاومة كأعظم رد يفسد الحسابات، والتي برغم الخسائر الجسيمة، احتفظت بقدراتها العسكرية والأمنية واستمرت في إدارة جوانب من الحياة اليومية في القطاع، وهو ما يحبط الهدف «الإسرائيلي» المعلن بإسقاطها عسكرياً وسياسياً.
الخلاصة هي أن المشروع الصهيوني، رغم كل ما يمتلكه من قوة عسكرية ساحقة وقدرة على إلحاق الدمار والمعاناة، يعاني من أزمة رؤية استراتيجية عميقة؛ فهو عاجز عن تحويل الدمار إلى استسلام، والتهجير إلى زوال؛ لأن الإرادة التي تواجهها هي إرادة شعب قرر أن يبقى، ووعي عالمي يتشكل ضد سياسات الإبادة والتطهير.

أترك تعليقاً

التعليقات