فهد شاكر أبو راس

فهد شاكر أبوراس / لا ميديا -
من قلب العاصفة التي تجتاح الشرق الأوسط، يقدم اليمن نموذجاً استراتيجياً فريداً يدمج الحرب الاقتصادية، والدبلوماسية، والسياسية، والعسكرية، إلى حزمة واحدة لا تنفصم، وحول حظره الجوي على مطار اللد المسمى من قبل الكيان الصهيوني "بن غوريون"، وباقي مطارات في عمق الكيان إلى سلاح شامل أعاد تعريف الصراع مع الكيان ليس فقط كمواجهة بين جيشين، بل كحرب وجودية، هاجم فيها اليمن أركان قوة الكيان الأربعة: الاقتصاد وهو عماد الهيمنة، والدبلوماسية أداة شرعنة الكيان، والسياسية مسرح تأثيره الخارجي، والعسكرية رمز قوته المزعومة.
لم يعد الحظر اليمني مجرد إغلاق لمدارج إقلاع وهبوط الطيران، بل تحول إلى عمليات معقدة تشنها صنعاء رغم حصارها، لفرض تكاليف باهظة على "تل أبيب"، وإجبارها على خوض معارك متعددة الجبهات:
اقتصادياً: انهيار 97% من حركة مطار اللد، وهذا وحده يهدد قطاعات السياحة والتجارة للكيان الصهيوني، المعتمدة على التدفق اليومي لأكثر من 21.1 مليون مسافر إلى الكيان سنوياً من كل بلدان العالم، ناهيك عن تحول قرارات شركات الطيران الكبرى مثل "طيران كندا" و"لوفتهانزا" إلى إضراب اقتصادي عالمي غير معلن يعمق عزلة هذا الكيان ويسرع نزيف احتياطياته النقدية.
عسكرياً: لم تكن العمليات العسكرية اليمنية التي أجبرت مطار اللد وغيره من مطارات الكيان على الإغلاق مجرد استعراض للقوة، بل كانت ولاتزال رسالة مفادها أن "القبة الحديدية"، وهي الرمز الأبرز للتفوق التكنولوجي الصهيوني، لم تعد سوى وهم، انهار أمام صواريخ مصنوعة في ظروف الحصار، وهذا يعيد تشكيل مفهوم الردع في المنطقة، حيث أصبحت القدرة على اختراق المنظومات الدفاعية بوسائل بسيطة، استراتيجية جديدة تقلق الكيان وحلفائه الغربيين، والذين يخشون من انتقال هذا النموذج إلى ساحات أخرى.
سياسياً: لقد حول اليمن الحظر الجوي إلى منصة لتعزيز شرعيته الدولية، عبر كشف التناقض الغربي بين إدانة "العنف" ودعم اقتصاد قائم على الاحتلال، حيث أصبحت الشركات الأجنبية عبر انسحابها من المطار طرفاً غير مباشر في استراتيجية الردع اليمنية، مما يضعف الرواية الصهيونية عن "الضحية المحاصرة"، ويظهر اليمن كفاعل عاقل يستخدم أدوات العولمة لتحقيق أهداف سياسية.
دبلوماسياً: سوف يعيد حظر اليمن الجوي على الكيان الصهيوني تشكيل التحالفات الإقليمية مع مرور الوقت؛ واستهداف مطار اللد وإيقافه تماماً سيحول اليمن إلى قطب جاذب لدول تبحث عن دور في معادلة الصراع، خاصة مع عجز الأنظمة العربية التقليدية عن مواجهة غطرسة الكيان الصهيوني، بينما يقدم اليمن نفسه حاميا لقضايا الأمة، عبر توظيف الأزمة لبناء تحالفات اقتصادية مع قوى صاعدة في آسيا وأفريقيا يراكم من خلالها نفوذاً دبلوماسياً يعوض غيابه عن المنصات الدولية.
وهنا الأهداف اليمنية مركبة ومتداخلة، ومنها:
اقتصادياً: شل الكيان الصهيوني وتحويله من "كيان شرق أوسطي مزدهر" إلى "كيان محاط بمخاطر لوجستية".
سياسياً: إجبار المجتمع الدولي على إعادة حساباته عبر ربط دعم كيان الاحتلال بانهيار مصالح كل الشركات الغربية.
عسكرياً: إثبات أن المواجهة ليست حكراً على الجيوش المدججة بالسلاح والعتاد، بل من المكن خوضها بوسائل غير تقليدية لتحقيق التفوق الاستراتيجي.
دبلوماسياً: تحويل قضية غزة إلى قضية عالمية، عبر ربط مصير بقاء الكيان الصهيوني بوقف العدوان على غزة.
إن الغاية النهائية للاستراتيجية اليمنية الشاملة هي "تفكيك عقدة الكيان الصهيوني" في المنطقة، وتحويله إلى عبءٍ على حلفائه، واختبار قدرة مشروعه الصهيوني على الصمود أمام حرب متعددة الأبعاد، بعد أن ينهار اقتصاده تحت وطأة العزلة، وتترنح دبلوماسيته مع انكشاف زيف ضماناته الأمنية، وتتصدع سياسته الداخلية تحت ضغط هروب مستوطنيه الجماعي إلى الملاجئ عقب كل عملية استهداف يمنية لعمقه الاستراتيجي.
وبينما يبرز اليمن من تحت الأنقاض والركام كقوة إقليمية صاعدة في المنطقة تصنع التاريخ بخطى ثابتة، ويقدم درسا مهما لكل العالم مفاده "أن الحروب في القرن الحادي والعشرين لم تعد تحسم فقط بالدبابات والترسانات العسكرية، بل بالاقتصاد أيضاً، وهو الذي يفلس الخصم، وبالدبلوماسية التي تعيد تشكيل التحالفات، وبالسياسية التي تعيد كتابة السرديات، وبالعسكرية التي تحقق المستحيل بصواريخ أذكى من كل تقنيات القوة الغاشمة".

أترك تعليقاً

التعليقات