عبد الحافظ معجب

عبدالحافظ معجب / لا ميديا -
لم يعد الطب كما عرفه الإنسان يوماً رسالةً مقدسةً لإنقاذ الأرواح وتضميد الجراح، بل صار في كثير من بقاع العالم مشروعاً اقتصادياً تتقاطع فيه المصالح وتتقاسم فيه الأرباح، وكأن الألم أصبح فرصةً للاستثمار والمعاناة سلعةً للمزايدة، بدأ هذا التحول الجذري لمهنة الطب الإنسانية في مجتمعات الرأسمالية المتوحشة في الولايات المتحدة وأوروبا، حيث وُلد نظام «العمولات» أو «نسبة الطبيب» الذي يقوم على مبدأ بسيط في ظاهره، خطير في جوهره: الطبيب لا يتقاضى راتباً ثابتاً، بل يحصل على نسبة مئوية من كل مريض يدفع للمستشفى، هذا النظام المعروف في أمريكا باسم «الدفع مقابل الخدمة» غيّر وجه الطب تماماً وحوّله من مهنة إنسانية إلى سوق للمنافسة والربح فصار المريض رقماً في كشوفات الإيرادات وصارت العملية الجراحية صفقة تجارية تُقاس أرباحها لا بنتائجها الصحية على المريض بل بعائدها المالي على شركاء النسبة.
هذا النموذج الذي انتقل لاحقاً إلى أوروبا سرعان ما وجد طريقه إلى الوطن العربي، حيث استقبله المستثمرون في القطاع الصحي كفرصة ذهبية لبناء ثروات طائلة تحت غطاء الطب، فبدل أن يُكافأ الطبيب على إخلاصه أو على جودة علاجه صار يُكافأ على عدد المرضى الذين يعالجهم وعلى عدد الفحوصات والتحاليل التي يُجريها، حتى وإن لم يكن المريض بحاجة إليها، وسرعان ما استشرى هذا النظام في المستشفيات الخاصة في لبنان ومصر ودول الخليج، ثم امتد أثره إلى اليمن في مرحلة لاحقة عبر بوابة «الاستثمار الصحي»، الذي كان في حقيقته استثماراً في معاناة الإنسان اليمني.
دخل هذا النظام إلى اليمن بهدوء تحت لافتات براقة مثل «تطوير القطاع الصحي» و»تشجيع الاستثمار في الخدمات الطبية»؛ لكنه مع مرور الوقت كشف عن وجهه الحقيقي، المستشفيات الخاصة التي يفترض بها أن تكون ملاذاً للمرضى تحولت إلى مؤسسات مالية تسعى للربح بأي وسيلة، الطبيب لم يعد يبتسم لمريضه حباً في مهنته، بل طمعاً في عمولته والمساعد أصبح شريكاً في الحسبة والإداري صار جزءاً من عملية الجباية التي تنتهي بفاتورة تفوق قدرة المواطن اليمني على السداد.
في بلد يعاني الفقر والبطالة والعدوان والحصار أصبح العلاج ترفاً لا يقدر عليه إلا الأغنياء. أما الفقير إذا مرض وأراد أن ينجو بجسده عليه أن يبيع قطعة من أرضه أو عقاراً يملكه ليدفع فاتورة مرضه، وإن توفاه الله احتُجز جسده في المستشفى حتى تسدد أسرته المبالغ المتراكمة عليه.
والأخطر من ذلك أن آليات هذا النظام الاستغلالي تبدأ من اللحظة الأولى لقدوم المريض، فحتى الحالات العادية التي لا تحتاج إلى تدخُّل معقد تُحوَّل إلى سلسلة من الإجراءات المكلفة؛ إذ يحرص الطبيب أو الممرض على تضخيم حالة المريض واختلاق تعقيدات لها بهدف فرض سلسلة من الفحوصات المخبرية والشعاعية غير الضرورية تصل أحياناً إلى حد الإيواء والرقود في المستشفى دون حاجة حقيقية، كل ذلك لرفع سعر الفاتورة النهائية، وبالتالي زيادة نسبة العمولة التي سيحصل عليها، هذا السلوك يتم دون أدنى اعتبار للمسؤولية الإنسانية أو الأخلاقية تجاه المريض والمهنة.
كما تمتد هذه الحلقة الخبيثة لتشمل عمولات شركات الأدوية، حيث يقيم الأطباء والممرضون اتفاقيات غير أخلاقية مع مندوبيها وموزعيها فيقومون بوصف أدوية تتبع هذه الشركات دون حاجة طبية فعلية لها مقابل عمولات مالية سرية، وهكذا يتحول المريض إلى سوق لترويج البضاعة ويصبح جسده مسرحاً لتنافس تجاري يقوده من يفترض فيهم الحفاظ على صحته.
الأسوأ من ذلك أن هذا النظام التجاري المريض لم يقف عند حدود القطاع الخاص في بلادنا، بل تسلل إلى بعض المستشفيات الحكومية التي كان يفترض أن تكون عنوان الرحمة والعدالة الصحية، وأصبحت بعض المرافق الحكومية تتعامل بعقلية السوق نفسها وتفرض رسوماً باهظة على خدمات يفترض أنها مجانية، بل وتشارك الكادر الطبي والإداري في تقسيم العائدات كما لو كانت شركة استثمارية لا مرفقاً عاماً، وهنا تكمن الكارثة الأخلاقية الأكبر حين تصبح المستشفيات الحكومية التي شُيّدت من أموال الشعب جزءاً من منظومة استغلاله بدل أن تكون ملاذه الأخير.
كل ذلك يجري في بلد أنهكه العدوان والحصار منذ العام 2015، حيث لم يسلم حتى الطب من الاستهداف. العدوان على اليمن دمّر البنية التحتية الصحية، حيث تعرضت المستشفيات للقصف المباشر وتوقفت مراكز الأمومة والطفولة وأُغلقت المختبرات وتوقفت محطات توليد الكهرباء التي تغذي غرف العمليات والعناية المركزة. الحصار الخانق منع دخول الأدوية والمعدات وجعل الأجهزة الطبية تتعطل لعدم توفر قطع الغيار، وتوفي آلاف من المرضى لأنهم لم يستطيعوا السفر إلى الخارج للعلاج بعد إغلاق مطار صنعاء، وملايين آخرون يموتون ببطء تحت وطأة الأوبئة والحميات والتلوث البيئي والحروب البيولوجية بينما العالم يتفرج بصمت.
في هذا الواقع المأساوي ينهش المرض جسد اليمني وينهش الفقر حياته وتنهشه المستشفيات الخاصة والعمولات الطبية كما لو كانت الذئاب تتقاسم فريستها. الطبيب الذي كان يُلقب بـ»ملاك الرحمة»، تحول في نظر كثيرين إلى شريكاً في الألم لأنه يُجبر المريض على فحوصات لا يحتاجها وعمليات لا ضرورة لها فقط لرفع قيمة الفاتورة التي يتقاسمها هو والمستشفى. أما المواطن البسيط الذي يحاصره الحصار من البحر والجو والبر وجد نفسه اليوم محاصراً داخل وطنه أيضاً بين الغارات التي تهدم بيته والمرض الذي يفتك بجسده والمستشفى الذي ينهب ماله، وحتى الموت لم يعد مخرجاً كريماً من العذاب؛ لأن المستشفيات تحتجز الجثث رهينة حتى تسدد الأسرة الفاتورة.
هذه المأساة ليست نتيجة وزير فاسد أو مدير فاشل، بل نتيجة نظام بكامله فقد بوصلته الأخلاقية. وهنا يجب أن نستوعب أن التغيير الحقيقي لا يعني تبديل وزير بآخر أو تعيين وكيل جديد أو مدير مستشفى جديد، فكل تلك التغييرات الإدارية لن تغير في عمق الكارثة شيئاً، طالما ظل نظام النسبة والعمولة نفسه هو المسيطر، هذا النظام يجعل الطب تجارة والألم مصدر رزق، نحن اليوم بحاجة إلى ثورة في المفهوم قبل المؤسسة وفي القيم قبل القوانين. نحتاج إلى نظام صحي جديد يقوم على العدالة لا على الجباية، وعلى الرحمة لا على العمولات، وعلى الكفاءة لا على الشراكة المالية؛ نحتاج إلى تغيير جذري يضع القوانين واللوائح الجديدة التي ستضع حداً لتجار المعاناة الذين بنوا ثرواتهم على أنين المرضى وآهات الفقراء وتعيد للطب هيبته وللطبيب إنسانيته وللمريض كرامته.
فالطب في اليمن أصبح ميداناً لمعركة ضمير بين من يتاجر بالوجع ومن يصرّ على أن يكون إنساناً رغم كل شيء، والتغيير المنشود لن يتحقق بمجموعة قرارات إدارية، بل بانتفاضة أخلاقية تعيد تعريف معنى الطب ومعنى الإنسانية في بلد تتقاطع فيه الغارات مع الأوبئة والحصار مع الطمع والموت مع الجشع، ولن يشفى جسد اليمن إلا إذا شُفيت ضمائر من حوله، لأن المرض الحقيقي لم يعد محصوراً في الجسد، بل في النظام الذي جعل من الطب سوقاً للأرباح بدل أن يكون طريقاً للرحمة.

أترك تعليقاً

التعليقات