عبد الحافظ معجب

عبدالحافظ معجب / لا ميديا -
لطالما مثّلت الحرب بالشائعات أحد أقدم أسلحة الحروب النفسية وأكثرها فاعلية في مسارات الصراع بين الأمم والشعوب. وقد طورتها الولايات المتحدة وأجهزتها المخابراتية لتكون أداة أساسية في تقويض الدول المستهدفة من الداخل، بعدما أثبتت الوقائع التاريخية محدودية الرهان على الحروب العسكرية وحدها. 
ففي كل بقعة من هذا العالم، حيث توجد مصالح أمريكية كبرى أو مشروع هيمنة، تقف الشائعة كرصاصة صامتة تُطلق على العقول قبل الأجساد، فتربك الجبهات الداخلية وتخلخل الثقة بين القيادة والشعب، وتُحوّل الرأي العام إلى ساحة نزاع خفية يصعب السيطرة عليها إن لم يُنتبه إلى مخاطرها باكراً.
إن الحرب على اليمن، منذ ما يقارب عقداً من الزمن، تقدّم مثالاً واضحاً على فشل الرهان العسكري المباشر الذي قادته واشنطن ولندن و«تل أبيب» عبر تحالف أدوات إقليمية لم تحقق أهدافها رغم هول العدوان وكثافة الحصار. ومع هذا الفشل العسكري الذريع، انتقلت غرفة عمليات العدو إلى أسلوبٍ آخر لا يقل خطورة: «الحرب الناعمة»، وأهم أسلحتها «الشائعات». هنا لا تُسمع أصوات المدافع والطائرات، بل تُطلق الأكاذيب والتضليل والدعايات المركّبة، فتتسلل إلى الأجهزة والأفراد ووسائل الإعلام وصفحات التواصل، لتزرع الخوف والتشكيك، وتغذي القلق وتعمّق الانقسامات.
في هذا السياق، يستدعى من المتأمل أن ينظر إلى تجارب سابقة. فالعراق كان ساحةً نموذجيةً لاختبار هذا النمط من الحروب. منذ الحصار الذي سبق الغزو الأمريكي في 2003، وصولاً إلى مرحلة الاحتلال، تحولت الشائعات إلى أداة ممنهجة استهدفت بث الفرقة المذهبية والطائفية والسياسية داخل المجتمع العراقي، حتى أُضعفت قدراته الذاتية على المقاومة، ووُظّفت الأزمات الداخلية لإطالة عمر الهيمنة الأمريكية. وفي ليبيا، أعقب التدخل العسكري حملة شائعات هدفت إلى تمزيق النسيج الاجتماعي، وإنتاج حالة فراغٍ أمني وفكري أبقت البلد رهينة نزاعات مفتوحة لا تزال آثارها ماثلة حتى اليوم. حتى إيران، رغم تماسك بنيتها الداخلية، لم تسلم من هذا السلاح، الذي تكرر استخدامه في كل محطة حساسة من تاريخها الحديث.
ما الذي يجعل الشائعات تنتشر كالنار في الهشيم؟ هنا تتقاطع الأبعاد النفسية والاجتماعية مع الأجندات الخفية.
أولاً: إن الخوف والقلق من أكثر البيئات خصوبةً لتكاثر الإشاعات؛ إذ إن الإنسان بطبيعته يميل في الأوقات الحرجة إلى تصديق الأخبار السلبية أكثر من تصديقه للأخبار المطمئنة، فيغدو ناقلاً للشائعة دون أن يشعر.
ثانياً: حين تغيب المعلومة الدقيقة أو يتأخر الصوت الرسمي عن توضيح الحقائق، تملأ الجماهير الفراغ بالأقاويل والتأويلات، فتصبح الشائعة بديلاً عن الحقيقة ولو مؤقتاً.
وثالثاً: لا يمكن تجاهل عنصر الدوافع الشخصية؛ إذ يجد بعض الأفراد في ترويج الأخبار المثيرة فرصة لجذب الانتباه أو الإحساس بامتلاك معلومة «خاصة» تضيف لهم مكانةً مؤقتةً في أوساطهم ومحيطهم وجمهورهم.
إن الأجندة الأكبر خلف هذه الحملات تكون عادةً أجهزة مخابراتية محترفة، أو أطرافاً معاديةً تدير غرف عمليات إعلامية وسيبرانية متخصصة في تصميم محتوى دعائي مضلّل يصعب في أحيان كثيرة اكتشاف زيفه دون تمحيص أو تدقيق. وتكمن خطورة هذه الحرب في أنها تستهدف الوجدان قبل الميدان، وتخاطب الوعي الجمعي بأسلوب التشكيك وإثارة الشكوك حول الثوابت أو المواقف أو الرموز أو القيادات، فتفتت الثقة وتسهل الطريق أمام أي تدخل لاحق.
وفي ظل صمود اليمنيين الأسطوري وثباتهم في موقفهم الداعم لغزة والمقاومة في وجه آلة البطش الصهيونية والأمريكية والبريطانية، تجد واشنطن وحلفاؤها أن أدواتهم العسكرية التقليدية فشلت في كسر الإرادة اليمنية، فاتجهوا إلى هذه الحرب الناعمة كسلاح أخير لضرب الجبهة من الداخل. ولعل تزامن انتشار الشائعات والدعايات السوداء مع كل تصعيدٍ أو إنجازٍ ميداني تحققه العمليات اليمنية المساندة لغزة، دليلٌ واضحٌ على أن الطرف المعادي يرى في وحدة الموقف اليمني تهديداً حقيقياً لمشروعه الاستعماري في المنطقة.
إن الواجب في مواجهة هذا النمط من الحروب لا يتوقف عند حدود الإنكار أو الاستنكار، بل يتطلب بناء وعي جماعي قادرٍ على قراءة السياق وفهم الغايات. وهنا تتعاظم مسؤولية المؤسسات الإعلامية الوطنية والناشطين وكل من يتعامل مع الجمهور عبر وسائل التواصل، بضرورة تحري الدقة قبل إعادة نشر أي معلومة، ومضاعفة الجهد في نقل الحقائق من مصادرها الرسمية المعتمدة دون تأخير؛ لأن كل فراغ إعلامي هو مساحة تنتظرها ماكينة الشائعات لتملأها بخيوط سمومها.
إن الشعب اليمني، الذي واجه الطائرات والصواريخ والحصار منذ سنوات، قادرٌ اليوم على أن يُسقط حملات التضليل كما أسقط حملات القصف. وأي متابع منصف يدرك أن ما عجزت عنه القوة العسكرية لن تحققه الأكاذيب، مهما بدت متقنة. فاليمن، الذي جعل من البحر الأحمر ميداناً جديداً للضغط نصرةً لغزة ورفضاً للهيمنة الصهيونية، سيظل متمسكاً بموقفه، مدركاً أن معركته ضد الحصار والعدوان توازيها معركة لا تقل أهمية في الداخل: معركة الحفاظ على الوعي وصون الجبهة الداخلية من التشكيك وبث الفتن.
إن الحرب بالشائعات ستظل سلاحاً قديماً متجدداً ما بقي هناك من يقاوم ويقف في وجه مشاريع السيطرة. لكن التاريخ يثبت أن المجتمعات التي تحمي وعيها تحمي انتصارها قبل أن يتحقق، وتصونه بعد أن يتحقق. وهكذا سيبقى اليمن، الذي تحطمت على أعتابه كل رهانات الغزاة، حصناً للوعي، وحائط صدٍّ أمام الدعاية السوداء، وسنداً للمظلومين في غزة وكل أحرار الأمة.

أترك تعليقاً

التعليقات