عبد الحافظ معجب

عبدالحافظ معجب / لا ميديا -
في خطوة محسوبة بدقة تؤكد ثبات المؤسسات النقدية والمالية في صنعاء رغم سنوات العدوان والحصار المركّب، أعلن البنك المركزي اليمني بدء تداول الإصدار الثاني من الورقة النقدية فئة مائتي ريال، في إطار خطة شاملة لإصلاح النظام النقدي وحماية القوة الشرائية للمواطنين، مع الحفاظ التام على استقرار سعر الصرف.
يمثل هذا الإصدار الجديد استجابة عملية لاحتياجات السوق المحلية، إذ يأتي لتعويض الأوراق النقدية التالفة التي أتلفتها سنوات الحرب والاستخدام المفرط، وسيسهم في تعزيز قدرة المواطنين الشرائية خاصة للفئات الأكثر اعتماداً على العملات الصغيرة لتلبية احتياجاتهم اليومية. ذلك أن أزمة الأوراق التالفة وانعدام الفئات المناسبة للتداول اليومي كانت تشكل عبئاً حقيقياً على شرائح واسعة من الشعب اليمني، وتؤدي أحياناً إلى مضاعفة أعباء الإنفاق والمعاملات النقدية في الأسواق.
ولعل ما يميّز هذه الخطوة أنها جاءت في إطار خطة مدروسة تلتزم أعلى معايير الطباعة الحديثة، بأحدث المواصفات الأمنية والفنية الخاصة بالبنكنوت، دون أن يترتب عليها ضخ أي كتلة نقدية جديدة قد تؤثر سلباً على سعر صرف الريال. وهنا يبرز بوضوح التزام البنك المركزي اليمني باستبدال التالف فقط، وسحب العملة المتآكلة من التداول، في سياق سياسة نقدية مسؤولة تحفظ استقرار السوق وتحمي مصالح المواطنين، بعيداً عن أي ممارسات طباعة عشوائية طالما حذر منها المختصون والخبراء.
إن هذه الخطوة لا تعكس بُعداً تقنياً وإداريا فحسب، بل تحمل أيضاً رسائل سياسية واقتصادية تؤكد قدرة صنعاء على إدارة ملف السيادة النقدية رغم ظروف الحصار البحري والجوي والاستخباراتي الذي حاول أعداء اليمن فرضه لإخضاع الشعب اليمني وإضعاف عملته الوطنية. فقد أثارت هذه الخطوة مجدداً أسئلة أربكت مراكز المخابرات الغربية وأدواتها الإقليمية: كيف نجح البنك المركزي في طباعة أوراق نقدية بمواصفات أمنية عالمية في ظل الحصار؟ أين تمّت الطباعة؟ كيف أفلتت من أعين واشنطن وجواسيسها وعملائها؟ وكيف فشلت كل محاولات الرصد والاكتشاف رغم التجسس المتواصل على كل تفصيل مالي ونقدي؟
إنها أسئلة ستظل بلا جواب لدى الأعداء الذين لم يستوعبوا حتى اليوم أن اليمن تغيّر ولم يعد ذاك البلد الضعيف الذي يُدار من العواصم الكبرى. فاليمن اليوم -بفضل الله تعالى ثم بفضل حنكة قيادته وكفاءة أبطال جبهته الاقتصادية- أثبت أنه يمتلك الإرادة والأدوات والقدرة على مواجهة الحرب الاقتصادية بأعلى قدر من الانضباط والاحترافية.
ولم يكن هذا النجاح وليد الصدفة، بل هو ثمرة مباشرة لثورة 21 أيلول/ سبتمبر المجيدة، التي حررت القرار الوطني والسيادة النقدية من التبعية للهيمنة الأمريكية. فقد أعادت هذه الثورة الاعتبار للريال اليمني، وحررت القطاع المصرفي من قبضة الإملاءات الخارجية، وأثبتت أن خيارات السيادة ليست شعارات بل سياسات ملموسة يُديرها رجال دولة واقتصاديون محترفون.
وبقدر ما يمثل الإصدار الثاني لفئة المائتي ريال خطوة لحماية القوة الشرائية وتنظيم السوق، فإنه يحمل أيضاً أبعاداً اجتماعية مهمة. فالفئات الشعبية الأكثر تعاملاً مع الفئات النقدية الصغيرة -من العمال وأصحاب الدخل المحدود والباعة الصغار- ستكون المستفيد الأكبر من سهولة التداول وسرعة إتمام المعاملات اليومية دون عراقيل ناجمة عن تلف الأوراق النقدية أو صعوبة توافرها. ولعل رضا هذه الفئات ينعكس مباشرة في الأسواق، ويعيد جزءًا من الثقة بالعملة الوطنية كوسيط نقدي يلبّي احتياجات الناس بأقل كلفة ممكنة.
وفي المقابل، فإن هذه الخطوة تدحض كل حملات التشويه والتضليل التي يطلقها العدو وأدواته في الداخل والخارج ضد السياسات النقدية لصنعاء. لقد حاول خصوم اليمن الترويج مراراً بأن إصدار العملة يهدف إلى تمويل رواتب أو تعويض نقص السيولة عبر طباعة عشوائية تؤدي إلى تدهور قيمة الريال. إلا أن الحقائق على الأرض تكشف عكس ذلك، إذ ظلت قيادة البنك المركزي تضع على رأس أولوياتها أن يكون أي إصدار نقدي موجهاً حصرياً لتعويض التالف وضمان بقاء العملة في مستوى يوازي حجم التداول الفعلي في السوق، دون أي إضافة تضخمية أو تحميل المواطن أعباءً جديدة.
إن مقارنة أوضاع المناطق الحرة في جغرافية السيادة الوطنية مع المناطق المحتلة تكشف بوضوح الفارق بين سياسات إدارة العملة هنا وهناك. ففي المناطق المحتلة، يواجه المواطنون أزمات خانقة جراء الانهيار المستمر في قيمة العملة والانفلات النقدي والنهب الممنهج للثروات، بينما استطاعت صنعاء -برغم الحصار- أن تحمي عملتها وتدير كتلتها النقدية بما يحفظ مصالح الناس ويقيهم شر التضخم المدمر.
من هنا، يؤكد اليمن أن الحرب الاقتصادية لن تكون طريقاً لتركيع شعب قرر أن يصنع حريته بيده. وقدرة صنعاء على طباعة أوراق نقدية بهذه الجودة والسرية وسط حصار استخباراتي محكم تعني ببساطة أن اليمن بات لاعباً إقليمياً لا يمكن تجاهله أو ابتزازه. ولن يسمح اليمنيون بتكرار تجارب التبعية ولا بعودة زمن الإملاءات، وستستمر معركة التحرر النقدي حتى يصبح الريال اليمني رمزاً ثابتاً للسيادة والاستقلال.

أترك تعليقاً

التعليقات