الإيمان: إرادة واختيار
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
قوةالمؤمنين تأتي نتيجة عدة عوامل، فكرية وعقائدية، روحية وسلوكية، تلتقي جميعها في سياق واحد، هو سياق تشكل الشخصية الإيمانية المتكاملة، التي لا تحد نفسها بحدود المكان أو الزمان، وإنما تتحرك بوعي في هذه الحياة كلها؛ وذلك لأن إيمانها هو حياتها الحقيقية، الذي تطل من خلاله على كل شيء من حولها، وتدرك بموجبه مسؤوليتها في نطاق حركة الكون والإنسان؛ لأن إيمانها لن يكتمل ولن يتجدد ولن يتحقق لها على ضوئه الارتقاء والسمو إلا عندما تحرك به جميع مجالات الحياة المختلفة، وتجعل من حركة الحياة بجميع تفاصيلها سبيلاً لتنمية إيمانها وتقويته وتعميقه، سواءً على مستوى الداخل المتعلق بالذات، من عقيدة وروحية وسلوك وأخلاق وقيم ومواقف ومهام وأدوار، أو على مستوى الخارج من سياسة واقتصاد واجتماع وإعمار وعدل ومساواة وبر وإحسان، وكل ما يتصل بالمعروف ويدخل في نطاق الحث على التزامه والإرشاد إليه والأمر به، إلى جانب النهي عن كل ما هو منكر، والعمل على محاربته والحد منه، وصولاً إلى استئصاله بالكلية من نفوس الناس وواقعهم الحياتي.
إن الإيمان الحق هو الذي يعمل على تحرير إرادة الإنسان من الخضوع للقوة الظاهرة التي يمتلكها أولئك المستكبرون والمترفون، كسبيل من سبل تحريره من الخضوع لأفكارهم ونزواتهم ومخططاتهم، التي هي بعيدة كل البعد عن الخير؛ لكونها تسير باتجاه الشر دائماً وأبداً، الأمر الذي يجعل الإنسان مستقل الإرادة، وسيداً لنفسه، فينطلق لممارسة المسؤولية التي يتحملها تجاه مجتمعه، من منطلق ما يملكه هو من قناعات وأفكار ذاتية هي التي تحدد له ما يجب عليه فعله؛ لكونه مسؤولاً عن تفكيره وحياته، لا خاضعاً مستسلماً للآخرين وآلة صماء بأيديهم تتحرك وتقف بإرادتهم في كل شيء، فالكل مسؤول عن نفسه.
وذاك ما عبر عنه القرآن الكريم في أكثر من آية تقرر الخط العام للقضية؛ إذ تؤكد هذه الآيات أن كل إنسان سيجد ثمرة سعيه، وأنه لا يتحمل وزر غيره، وذلك ما تضمنه قوله تعالى: «أن لا تزر وازرة وزر أخرى»، «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى، ثم يُجزاه الجزاء الأوفى».
هذا من جانب، ومن جانب آخر يمكن تتبعه في الآيات التي تضمنت ما سيدور يوم القيامة من حديث بين المستكبرين والمستضعفين، وما قاموا به من أعمال جسدت في طبيعتها نزعتهم المتمردة على الله، وكفرهم بشريعته، وتوجههم لمحاربة رسله وأتباعهم. فنجد في آيات كيف أن المستضعفين الذين ألغوا إرادتهم، وجعلوا أنفسهم أتباعاً للمستكبرين، في الدنيا، وقد سيطرت عليهم حالة اليأس والإحباط وهم يرون العذاب يوم القيامة، فيتجهون لأولئك المستكبرين طالبين منهم تحمل شيء من عذابهم، أو حمايتهم، لقاء تبعيتهم لهم في الدنيا، فيجيبونهم بأصوات ملؤها العجز، ونفوس ذليلة محطمة، بأنهم في المصير ذاته، ولا يستطيعون فعل شيء لأنفسهم، ناهيك عن تابعيهم!
ثم يتصاعد اللوم والنزاع والجدال في ما بينهم، ليقف في نهاية المطاف كل تابع أمام حقيقة نفسه، التي لم تتبع المجرمين إلا لكونها وجدت في ممارساتهم وطبائعهم وأفكارهم ما يعبر عن كوامنها الراقدة في الأعماق، الموحية بتأصل نزعة الاستكبار والإجرام في كيان ذلك التابع وشخصيته، وإلا لما انصرف عن هدى الله وسلك طريق الغواية والتزيين، التي لا تشل إرادة، ولا تحكم فكراً، مهما بدت قوية، ما لم يندفع الفرد من تلقاء نفسه باتجاهها، بل حتى الشيطان نفسه ليس له سوى أن يدعو أتباعه، دون ممارسة أي ضغط أو إكراه عليهم كي يستجيبوا له.

أترك تعليقاً

التعليقات