ثقافة الضياع
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
تحتاج معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلى إعادة التأهيل النفسي، كخطوة أولية يتعين علينا البدء بها قبل كل شيء، إذ لا معنى للقيام بحركة فكرية وثقافية في أوساط مجتمعية محطمة من الداخل، تعيش حالة من الانهيار والتمزق الروحي، أوساط فقدت ثقتها بنفسها، قبل أن تفقد الثقة بدينها وتراثها ومعتقداتها وأفكارها ورموزها ونخبها الثقافية والسياسية والإعلامية والعلمية والاجتماعية، أوساط أثرت عليها مختلف الهزائم والنكسات التي تجرعتها خلال سبعين عاما مضت، إلى الحد الذي جعلها تنجذب لكل الأشياء المعبرة عن كل ما هو تافه وسلبي وهدام، وبطريقة مخيفة ومفزعة، بحيث ترى الجماهير تبكي وتتألم نتيجة فوز فريق رياضي في مبارة كرة قدم جمعته مع فريقها المفضل، كما ترى فئات أخرى مستعدة لدفع حياتها مقابل الحصول على صورة فوتوغرافية تجمعها بالفنان أو المطرب الفلاني، بالإضافة إلى وجود فئات تفضل البقاء مع كل ما هو أقرب إلى الخيال والأسطورة، في كل ما تسمعه أو تقرأه، ولا تتقبل أي حديث يمكنه التطرق لما يتهدد وجودها من أخطار وأزمات، أو يتضمن في طياته ما يدعوها للقيام بدورها، وتحمل مسؤوليتها تجاه أي قضية من قضايا الوجود والمصير، حتى ولو على مستوى خطبة الجمعة.
لقد التقيت بأحد الأصدقاء في الجمعة الماضية، فعرض علي الذهاب معه لأداء صلاة الجمعة، وذلك في أحد المساجد التي يقول عنها صديقي: إنها من المساجد التي لاتزال تحظى بوجود خطباء مفوهين، وذوي قدرة خارقة على سلب لب السامع، والتأثير عليه، وتوجيهه لما يصلح أمره في حياته كلها، وما إن وصلنا إلى المكان، حتى تفاجأت بأن المسجد يكاد يختنق بكثرة المصلين، والذين جعلوا من الشارع حوله مصلى إضافيا، وما هي إلا لحظات، فيصعد الخطيب المنبر، ليستفتح خطبته العصماء، التي بلغت قرابة أربعين دقيقة، توزعت ما بين الحديث عن الهرة والثعبان الأعمى، وبين الحديث عن مقابلة كل ما يعترينا من فقر ومرض، وكوارث ونكبات بالتفرغ للعبادة، وملازمة السجود مع الدعاء، من دون أن نفكر بفعل شيء آخر، وستحل كل مشكلاتنا، حتى ولو لم نقم بشيء في سبيل ذلك!
وليت مثل هكذا ثقافة سلبية اقتصرت على بعض ما يورده هذا النوع من خطباء المساجد! بل لاتزال المدارس والجامعات تعاني من ذات المسألة، إن لم يكن الخطر أكبر على الأجيال التي تتلقى مثل هذه الأفكار، التي تشوه العلاقة بالدين لدى المتلقي، وتجعل من قضية الأخذ بالأسباب لمواجهة شؤون الحياة المختلفة أمراً من أمور الشرك بالله، من ذلك ما أورده أحد الناشطين عبر شبكات التواصل الاجتماعي، كمثال يشرح كيفية انعكاس الثقافات المغلوطة على سلوك الطلاب وقناعاتهم، إذ يتحدث عن: معاناته مع ابنه الذي يدرس في الصف السابع، والذي أخبرتهم معلمة التربية الإسلامية: بأن كل شيء قضاء وقدر، منذ أن خرج أبونا آدم من الجنة، حتى نهاية الخليقة، فلا العاصون يعصون بإرادتهم، ولا المطيعون يتحركون بفعل وعيهم وقناعاتهم، وحتى النجاح والفشل، والسعادة والشقاء، وكل ما يقع على الإنسان، فهي أمور كتبها الله عليه، ولا يمكنه تفادي الوقوع بها، أو تغييرها، مما جعل هذا التلميذ يقول: إذن لماذا أضيع وقتي بالمذاكرة، والله قد كتب علي الرسوب أو النجاح مسبقاً؟

أترك تعليقاً

التعليقات