الأكثر إجراماً بين جميع الأعداء
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
لم يسقط الكيان الإسلامي العربي في الوحل، ويستغله الاستكبار ويستعبده إلا بعد أنْ حارب العقل، وتنكر للعلوم الطبيعية، وانزوى إلى المعابد والهجر والأربطة والزوايا؛ ليدرس الفقه، ويقضي عمره في حفظ أبواب الطهارة والنجاسة والأحكام المتعلقة بالنكاح، فضاع في البحث عن سفاسف الأمور، وضيع أجيال من أبناء الأمة، وأفقدنا الحاضر، وبات هو الأساس الذي من خلاله يمكن القضاء على المستقبل!
تخيل عزيزي القارئ؛ أنه في الوقت الذي بات العلم هو المحرك للوجود، وأصبح هناك مَن يسخر الطبيعة لصالحه، وصار بيده كل ممكنات القوة والقدرة؛ ظل المسلم منشغلاً بأي قدميه يدخل إلى دورة المياه، وبأيهما يخرج؟! وفي لحظة سعي الاستكبار الصهيوني العالمي لقطع يديه ورأسه، وإهلاك حرثه ونسله؛ ظل منشغلاً بكيفية وضع يديه في الصلاة؟! وكيف يمسح رأسه في الوضوء؟! وكم عدد التمرات التي يفطر بها من صيامه؟! وما حكم قطرة دم بعوض وقعت في ثيابه، ولم يسأل ما حكم المتفرج على الدماء المسفوكة من أبناء ملته على يد عدوهم جميعاً، فأي جاهلية أبشع من هذه؟!
لقد ارتكب الفقهاء أكبر جريمة بحق المسلمين، حينما جعلوا العلم معارضاً للوحي، وقد كذبوا، وحرفوا وانحرفوا؛ فالعلم في حقيقته ليس معارضة للوحي، بل امتداد له في المجال العقلي والتجريبي. فكما أن الوحي يعلّم الإنسان [الأسماء كلها] فإن العلوم المادية هي تجليات لتلك الأسماء في أفق الوجود التاريخي. فكل معادلة فيزيائية أو نظام بيولوجي أو قانون كوني هو وجه من وجوه التسخير الإلهي، كما يقول تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ}.
إن العلوم الطبيعية تُسهم في تنوير الإنسان على المستوى الوجودي لأنها تبدد الجهل الذي يحجب رؤية النظام الإلهي في العالم، وتدفعه إلى التأمل في وحدة الخلق وتوازن الكون ودقة المقادير. إنها تفتح أمامه طريقاً من المعرفة الموضوعية يقوده إذا كانت نيته خالصة إلى المعرفة القلبية، أي الشهود الباطني للحق في مظاهر الخلق.
لكن هذه العلوم، حين تُفصل عن بعدها الروحي، تنقلب على نفسها وتتحول من وسيلة هداية إلى وسيلة غواية، كما نرى في الحضارة الحديثة التي جعلت من المعرفة التجريبية صنماً جديداً. أما إذا أعيد توجيهها ضمن إطار الغاية الإلهية، فإنها تصبح أداة لتحقيق توازن بين الزمن التاريخي والزمن المقدس، أي بين حركة الإنسان في العالم المادي، وحنينه إلى الأصل الإلهي الذي صدر منه.
بهذا المعنى، فإن العمران الإلهي هو الترجمة التاريخية لتجلي المقدس: الروح تهدي العمل، والعمل يحقق الروح في الواقع. فكل بناءٍ ماديٍّ لا يقوم على أصلٍ روحيٍّ هو هدمٌ في جوهره، وكل تجربة علمية لا تُفضي إلى معرفة الله هي جهلٌ في صورتها الأنيقة.
العلوم المادية إذن ليست خارجة عن مسار التقديس، بل هي إحدى مراتب الوحي العملي؛ فكما يتجلى الله في الكلمة القرآنية، يتجلى أيضاً في قانون الجاذبية، وفي هندسة الخلية، وفي انتظام المدارات. وكما أن القلب العارف يتلقى الفيض من العقل الكلي، فإن العقل الباحث يتلقى الفيض ذاته بلغة الرموز والمعادلات.
وحين تندمج المعرفة التجريبية بالمعرفة القلبية، يصبح الإنسان كائناً عمرانياً بمعنى قرآني: يبني الأرض دون أن ينسى السماء، ويُنمّي الحياة دون أن يُميت القلب، ويجعل من كل كشف علمي طريقاً إلى مزيد من الوعي بحضور الله في العالم.
إن هذا التوازن هو ذروة الغاية من الوجود الإنساني: أن تكون الحضارة مرآةً لتعاليم الله في التاريخ، وأن يكون العلم -مهما اختلفت وسائله- شعاعاً من أنوار الحقيقة المطلقة.

أترك تعليقاً

التعليقات