هناك أباليس كثر
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
ليس هناك مَن هو أكثر براجماتية وانتهازية وخداعاً وكذباً وتدليساً ممن يحرص على تتبع كل مظاهر الفساد في ممارسات خصومه وواقعهم، ثم يتغافل عن تتبع تلك المظاهر في واقعه وممارسات وأعمال وسلوكيات أبناء مجتمعه وأمته، لأن بهؤلاء وأمثالهم أصبح الباطل حقاً هنا، بينما بقي كما هو باطلاً هناك، وبهؤلاء أيضاً ضاعت الحقوق، وتبدلت المفاهيم، واختلت الموازين، واختفت المعايير، التي بها نقيس الأشياء، وندرس الأفكار، ونحكم على التحركات والممارسات سلباً أو إيجاباً، وبهم كذلك أُفرغَت الأفكار العظيمة من محتواها، وأضاعت الحركات الثورية والنهضات التحررية طريقها، قبل أن تخطو فيه خطوةً واحدةً إلى الأمام، فتشتتت بها السبل، وتناولتها أيادي العابثين، وتلاعبت بها الأهواء، حتى تحولت ذكراها إلى محطات لاستحضار ما خلفته من مآسٍ، وتركته من آلام على محيطها ومجتمعها!
وكم هنالك من ثورات في تاريخنا الحديث والمعاصر، لم يعد التوقف عند ذكرى انطلاقتها بالنسبة لعامة الناس؛ إلا مقاماً للتوجه بلعن رموزها وأبطالها، والتشنيع عليها، والحط منها، والازدراء لأفكارها، مع أنها كانت صادقة في دعوتها، مخلصة في مقاصدها وتوجهاتها، سليمةً من كل العيوب حين انطلاقتها!
ولكن ما قيمة نقاء قلوب مفجريها وروادها الأوائل، وسلامة توجهاتها، وطهارة غاياتها ووسائلها، وعظمة أهدافها، ووضوح طريقها، مادامت ستفقد كل تلك السمات والخصائص الإيجابية تدريجياً، ومع كل خطوة تخطو بها إلى الأمام، وذلك تبعاً لتدرج اختفاء النقد الذاتي، والمراجعة الداخلية لكل الخطط والبرامج والأعمال، واختفاء مبدأ الرقابة والمحاسبة من قاموسها لكل العاملين بمختلف مواقعهم ومقاماتهم؟!
وهكذا يتحول إعلام تلك الثورات ومثقفوها إلى بائعي أوهام لشعوبهم، وكرباج مسلط من قبل تلك السلطات والأنظمة على رأس كل فردٍ من أفراد تلك المجتمعات يحاول أن يقول: لا، عندما يرى مخالفةً هنا، وظلماً وفساداً وجوراً وبغياً وتعدياً هناك.
من هنا يتبين: أن مرد كل انحراف أو فساد داخل الحركات الثورية عائدٌ إلى وجود تلك النوعية من المثقفين، المشار إليهم في مطلع هذا الحديث، والذين يُفسح لهم المجال لكي يقولوا ما يريدون، فيتم بموجب ما يطرحونه تشكيل العقول والأفكار ذات الطابع الشيطاني، لتصبح النظرة لكل شيء محكومة بعقدة الكبر، التي ترى الأفضلية للشخصية المعبرة عنها، والأفكار المشكلة لهويتها، فهي وحدها فوق كل ذات، وقادتها أعظم القيادات، وممارساتها هي الحق، كل ذلك مرده إلى حكمها على الأشياء كلها باعتبار عناصرها الذاتية، وليس باعتبار الأعمال والتوجهات، فيسود منطق إبليس على الواقع كله، ويعلو صوته بالاحتجاج على كل من يدعو لالتزام الحقيقة، قائلاً بلسان أباليس كثر: «أنا خيرٌ منه».

أترك تعليقاً

التعليقات