بين القوة وفلسفة الاستشهاد
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
لا يمكن للتاريخ أن يتجدّد ويستمر لولا المتغيرات التي تفرضها الظروف الناشئة قبل وبعد أي حدث مهم، وبالتالي لا يمكن للتاريخ أن يشيخ أو يهرم، لأن الزمان والمكان يشهدان تبدلات مثيرة تجعل الواقع متحركاً بسرعة تفوق القدرات والإمكانيات.
وإذا كان لهذا التاريخ أن يستوعب الظواهر ويحوّلها إلى ثقافة مستمرة بعد أن يخضعها لقوانين علمية تحسم الجدل والنقاش، فإن ثمة ظواهر نشهدها عصيّة عليه لأنها ما زالت خارج دائرة القوانين وعصية على القدرات الحسية وغيرها، ونخص منها ظاهرتي القوة المتغطرسة والاستشهاد.
وهما ظاهرتان متباعدتان في النشأة وفي المفهوم. شهد التاريخ للأولى تفوقاً مادياً مصحوباً بالرعب المتلازم حكماً مع سلوكية عدوانية سادية يتلذذ صاحبها بعذاب الآخرين. وهذه الظاهرة الفلسفية محكومة ظاهرياً بالغطرسة والطغيان، لكنها ضمنياً تكاد تكون أوهن من بيت العنكبوت. وإذا كان لا بد من تقديم مثال على ذلك، فإن أفضل من يمثله الكيان الصهيوني، الذي لم يشهد أبناؤه لحظة هدوء وطمأنينة عبر «التاريخ»، رغم ترسانة الأسلحة والتفوّق العسكري، والدعم المفتوح من الولايات المتحدة والغرب.
أما الظاهرة الثانية، وإن كان مظهرها يشهد بضعف مادي، فقد تجاوزته بقوة الدم والإرادة، لذلك حار المحللون في توصيفها، كما عجزوا حتى الآن عن فك رموزها، وقد لا يتمكنون؛ لأن تجسيدها النوعي ظهر في القرن الأول للهجرة حين أرسى الحسين قواعد الاستشهاد وأرهب المالك لعناصر القوة، وما زالت عصيّة على الفهم والاستيعاب.
وقد عادت ظاهرة الاستشهاد، المتمثلة بالمقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين، إلى الواجهة منذ عقود، لتتصدى لفلسفة القوة المتمثلة بالكيان الصهيوني. وإذ تكشف ظاهرة الاستشهاد نقاط الضعف الكامنة في غطرسة القوة، وحيث تميل كفة الاستشهاد على حساب كل فلسفة تعتمد القوة وسيلة للقهر انطلاقاً من جدلية الموت أو الحياة وفق شروط القوي وحده، يبرز السؤال ليتمثل لغزاً يخيل للناس أنه عصيّ على الحل، وهو: كيف تتمكن فلسفة الاستشهاد من إنتاج آليات القوة من الضعف؟ وكيف تحيل السياسة القائمة على القوة إلى ضعف؟
قد يقدّم الاستشهاديون أنفسهم إجابة على هذا السؤال تجعلهم أكثر قدرة على التماهي مع قوة أشد فاعلية من القوة المادية، أي قوة الإيمان التي تفرّق بين الموت والخوف من الموت، بحيث يقضي اختيار الموت على فلسفة القوة القائمة جوهرياً على مبدأ التخويف من الموت، هذه الفلسفة المتلازمة مع الموت الحتمي، كأقصى حالة يستحضرها الإنسان مهدداً ومتوعداً سواه، يعتصم بها الاستشهادي ويقدم عليها بنفس مطمئنة وليس لديه أدنى شك في الظفر بالجنة التي يوعدها، وهو إذّاك يحشد كل طاقاته ليغدو إنساناً حراً يرفض الهزيمة ليربك عدوه ويقضي على معنوياته وعلى تمسكه بفلسفة القوة. شكّلت هذه المفردة البسيطة مادة مميزة تناولتها بالدراسة والتحليل علوم عديدة كعلم الاجتماع بغية صياغة نظرية تفسرها ولا غرابة في ذلك.
أينما وُجد الظلم وُجدت المقاومة بشتى أساليبها، والاستشهاد إحدى الركائز المهمة في الحرب، وسلاح نوعي يعوّل عليه في الشدائد، ولا يمكن أن يوجد إلا في العقيدة الراسخة وإن كان بعض منه موجوداً في بعض الأيديولوجيات القومية أو الوطنية.
إن الظروف المحيطة بالإنسان من اجتماعية ونفسية وغيرها، قد تدفعه إلى قتل نفسه أحياناً. وبما أن الاستشهاد هو نوع من قتل النفس، يعمد البعض إلى اعتباره انتحاراً، متجاهلين خصوصياته التي يتفرّد بها؛ إذ إنه حالة عشق لله تلغي كل الفوارق بين الناس، لذا نجد بين الاستشهاديين العديد من المجاهدين الذين بمقدورهم أن يؤمنوا لأنفسهم أحسن وأفضل حالة نفسية واجتماعية، كما بمقدورهم أن يصلوا وينالوا ما يشتهون من الدنيا. لكن توقد حب الله في أفئدتهم نزع منهم حب الدنيا، وأجّج فيها حب لقاء الله تعالى، ليزدادوا هدى ويسلكوا طريق الموت الذي يصنع الحياة الكريمة.
المؤمنون الصادقون هم الذين يُقدِمون على الاستشهاد بعد أن يتشبعوا بفلسفته، وبعد أن يخضعوا لاختبارات دائمة تحوّلت إلى امتحانات اعتبرت من أهم الركائز التي ترتكز عليها عقيدتهم كاستشهاديين.

أترك تعليقاً

التعليقات