عالم العميان
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
نحن والعمى حكايةٌ لا نهاية لفصولها، وعالمٌ لا يُعرف طرفاه، ولا تُحصى مكوناته وأجزاؤه، عالمٌ ألفناه أطفالاً، فعشقناه بعد أن عرفنا كنهه، وأدركنا أسراره، الأمر الذي جعلنا لا نسأم بقاءه معنا، ولا نمل رفقته لنا، ولا نشعر إزاءه بالنقص حتى وإن عيرنا الآخرون بذلك، أو قابلنا الأقربون بنظرة الإشفاق تارةً، ونظرة الخجل والاستحياء من معارفهم كلما قابلوهم وهم برفقتنا، لأنهم لم يكونوا يجدون إجابةً أثقل على أنفسهم من الإجابة بنعم أو لا على سؤال أولئك لهم عن ذلك الأعمى: مَن يكون؟ وابن مَن هو؟ هل هو ابنكم؟ كانت الأمهات يُجبن بنفوسٍ ملؤها الحزن والمرارة والمحبة والحنان على أطفالهن العميان بنعم، وكان الآباء يتهربون من الإجابة أحياناً، أو يجيبون بنعم؛ ولكن بهز رؤوسهم، فقط، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء النطق بها؛ لأن ذلك الاعتراف فيه من المشقة والعار ما يكفي لجعلهم يعمدون لعدم اصطحابنا مرةً أخرى إلى سوق المدينة، أو إلى المحافل والمناسبات معهم؛ لا لشيء إلا لكونهم لم يكونوا يحبذون أن يراهم أصدقاؤهم وبقية الحاضرين وهم يأخذون بيد أعمى، فذاك يحط من قدرهم، ويبدي العيب الذي حل بهم، ولا يريدون لأحدٍ أن يطلع عليه، أو يكتشفه، وقد يفضل أحدهم الموت، على أن يسمع مَن يقول: لدى فلان طفل أعمى.
ومع ذلك كله ازددنا لهذا الرفيق حباً وعشقاً، وزادت بذلك الحب علاقتنا قوةً ومتانةً، فسرنا معاً نطوي الدروب بحثاً عما يمكننا من تأكيد إنسانيتنا، والإثبات لأسرنا قبل غيرهم أننا لا ينقصنا شيء عن المبصرين، ولا نقل شأناً عن بقية البشر الأسوياء، كل ما نحتاجه هو الدعم المعنوي والمادي حتى نتمكن من ذلك، وقد حاول آباؤنا إجبارنا على اختيار حفظ القرآن الكريم، لكي نكون امتداداً للعميان الذين حفظوه، واتخذوه وسيلةً للاسترزاق، ومنطلقاً لإقامة حياتهم، التي سيكون لزوم المساجد شغلها الشاغل، وعالمها الوحيد، وأفقها ومتنفسها، ومبلغ علمها، ومنتهى طموحها؛ ولكنهم فشلوا مع أغلبنا في تحقيق رغبتهم تلك، وكنا هذه المرة نحن المعنيين بأن نختار ما نريد، فاخترنا الطريق الذي بإمكاننا من خلاله أن نصل إلى كل ما نهواه ونبتغيه من العلوم والمعارف، التي بها سنصنع ذواتنا، ونحفظ وجودنا، ونؤدي رسالتنا في هذه الحياة كما يجب.
وبعد عدة محاولات للبحث عن نقطة البدء لانطلاقتنا نحو الوجهة التي اخترناها، لتحقيق كل ما نرجوه، وإيجاد كل ما نطمح إليه، التقينا بمركز النور للمكفوفين، فكان الأب والحاضن والأسرة والمدرسة والملاذ، وكان الموضع الذي احتوى بين جنباته وتحت سقفه كل ما يدور في الحياة، من مشاكل وصراعات وهموم وتناقضات، فأعطانا إلى جانب التحصيل العلمي، دروساً أخرى عن طبيعة المجتمع اليمني، بكل ما فيه من خير أو شر، ومكننا من الفهم لمنشأ السلبيات، ومنبت الإيجابيات، في كل مناحي الواقع، ولنا في الغد بمشيئة الله وقفة لبيان ذلك.

أترك تعليقاً

التعليقات