كم لدينا مثله؟
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
عام 1917م، دخل الجنرال الإنكليزي ستانلي مود إحدى المناطق في دولة عربية... فصادفه راعي أغنام، فتوجه للراعي وطلب من المترجم أن يقول للراعي: «الجنرال سيعطيك جنيها إسترلينيا إذا ذبحت كلبك الذي يجري حول الأغنام، الكلب يمثل حاجةً مهمة للراعي لأنه يسيّر القطيع ويساعد بحماية الأغنام من المفترسات، ولكن الجنيه في ذلك الوقت تستطيع أن تشتري به نصف القطيع، سُرَّ الراعي وانفرجت أساريره، وجلب الكلب وقام بذبحه تحت أقدام الجنرال.
حينها قال الجنرال مود له: «أعطيك جنيها إضافيا إذا سلخت جلده»، بادر الراعي الى أخذ الجنيه وسلخ جلد الكلب، قال له مود: أعطيك بعد جنيها ثالثا على أن تقطع الكلب الى قطع صغيرة. ومباشرةً فعل الراعي ذلك. فأعطاه الجنرال الجنيه وانصرف.
ركض الراعي خلف الجنرال ومن معه منادياً: هل تعطيني بعد جنيها وآكله؟
أجابه الجنرال: «كلا أنا رغبت فقط بمعرفة طباعكم وفهم نفسياتكم فأنت ذبحت وسلخت وقطعت أغلى صديق عندك ورفيقك من أجل ٣ جنيهات وكنت مستعداً لأكله مقابل جنيه رابع وهذا ما أحتاجه هنا وما أود معرفته».
والتفت بعدها إلى جنوده وقال لهم: «مادام هناك الكثير من هذه العقليات فلا تخشوا شيئاً».
القصة يرويها الدكتور علي الوردي في كتابه «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق». وهي تظهر بعض النفسيات الضعيفة الموجودة في كثير من مجتمعاتنا المستعدة لفعل أي شيء مقابل المال دون إدراكهم أنهم باعوا الغالي بالرخيص.
وهذا ما يستخدمه أي احتلال أو عدو لتفكيك المجتمعات على مر التاريخ. ترى كم يوجد من بين شعوبنا ممن يستعد أن يأكل ليس من لحم كلبه، بل لحم أخيه، طلباً للمال؟!
إن أغلب معاييرنا اليوم تم تفريغها تدريجيا من محتواها الدلالي خاصة المعنوي، وتم إحلالها بدلالات مادية محضة، وبطريقة ناعمة تعمل على منطقة اللاوعي، ثم تتحول تدريجيا في المجال الإدراكي إلى وعي بعد أن تمهد القابلية الحسية والعقلية لقبول المعايير بحلتها الجديدة. وهذه الحلة الجديدة لا تعني تغيير ظاهرها حتى لا يتم مواجهتها، بل تعني تغيير محتواها الداخلي والمعنوي بالذات مع الحفاظ على شكلها وظاهرها، ولا يخفى على أحد أن هناك وسائط وأدوات ومسوغات يتم بواسطتها إحداث عملية تفكيك منهجي وفكري من قبل الاستكبار، لكل مجتمعاتنا، ومن تلك الوسائط والأدوات التي تمكنه من النفاذ إلى كل عقل وقلب، لتحقيق عملية التفكيك المنهجي للبنى المعرفية التي عادة ما تتم دون أدنى مقاومة:
* سهولة الحصول على التكنولوجيا والإنترنت وانتشارهما بطريقة أوجدت صعوبة في الاستغناء عنهما ليصبحا من الضروريات الحياتية حتى لفقراء الحال.
* وجود الأرضية والقابلية لعملية التفكيك، نتيجة الوهن والضعف في جسد الأمة، وغياب المنهج والأدوات العقلية في تحقيق المعارف، وفي تقييم المعارف القادمة، لانعدام المشاريع النهضوية الثقافية.
* الاستبداد وتحالفاته التي جعلت من كثير من الفقهاء أتباعا للبلاط يشرعنون وجوده، واستقطبت كثيرا من المثقفين إلى نفس البلاط من خلال إنشاء مراكز دراسات بدعم حكومي يشغل المثقفين بانشغالات فكرية ثقافية لكنها غالبا مخملية بعيدة عن هموم الناس والواقع، تنظيرية غير قابلة للتطبيق ولجذب الناس، فخدرت عددا كبيرا من المثقفين بالثقافة، وشغلتهم عن الجماهير وعزلتهم. فهيمنت على الجمهور بالقوة وعطلت العقول بالفتوى.
* تردي مستوى التعليم في المجتمعات، مع انتشار المناهج الدينية المتطرفة التي عطلت قدرة العقل على السؤال، من خلال ثقافة الإقصاء وتحديد الحقيقة بمنهج واحد لا شريك له.
* عجز الوسط المتدين عن تقديم مشاريع نهضوية، قادرة على تثبيت الثابت وتطوير المتغير، بل كان سببا في تسرب عدد كبير من الشباب من أوساطه إلى أحضان الحداثة والعولمة، بعد عجزه عن الإجابة على التساؤلات العقدية الكبرى.
* تمييع الهوية من خلال تغيير قائمة الأولويات، وضرب منظومة المعايير والقيم، وتضارب الواقع مع النظريات، لابتعاد المنظرين عن واقع الناس وحاجاتهم وأهم إشكالياتهم التي تسوغ لهم كثيرا من التساؤلات وتضعهم في فوضى الأفكار.

أترك تعليقاً

التعليقات