الجرم الأشد، لماذا؟
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
على أعتاب محرم الحرام، جلس إلى الكتابة، متلمساً من خلال قلمه منفذاً للعبور، تماماً كما يتلمس الأعمى بعصاه الطريق، باحثاً عن ممرٍ آمنٍ لقدميه، ومسلكٍ سهلٍ يسير، يرتاده لبلوغ غايته وقصده، ولكن هذا المنكب على الكتابة، والوحيد إلا من القلم، والمعزول عن كل الناس الذين يمكن التحدث معهم ومجالستهم، إلا من الحروف والكلمات، شعراً ونثراً، لا يبحث عن مواضع لقدميه، ولا يشكو من عناء السير باتجاه غايته، ولم يعش الحيرة يوماً في ما اختار من توجه، ورسم من أهداف، وحمل من فكر وقضايا وقيم ومبادئ وقادة ومشروع وأمة وعقيدة ومسؤولية، إذ هو المهاجر أبداً على مدار العام، وإن لم تكن هجرته من مكان لآخر في الإطار الجغرافي، فقد كانت هجرته في إطار الذات نفسها، بحيث استطاع الانتقال بنفسه من مرحلة ووضعية وحالة ما، إلى مرحلة ووضعية وحالة أخرى لا تشابه سابقتها بشيء، فقد هاجر من حالة الضعف إلى القوة، ومن الشك والتردد والانهزامية، إلى اليقين والعزم على الحركة، والصبر العملي في مواجهة الضغوط والتحديات والعقبات التي تقف في طريقه، وقد هاجر من وضعية الدونية وانعدام الوزن، والبقاء على هامش الحياة، إلى وضعية التفاعل والانفعال والتأثير والإيجاد، كل ذلك حدث ويحدث معه دائماً، فهو المهاجر داخله في كل ساعاته وأيامه ولياليه وأعوامه السالفة، وسيبقى كذلك حتى الهجرة الكبرى إلى اللحد.
وكما هو حاله مع الهجرة المباركة، كان كذلك مع الثورة الإنسانية الحسينية الخالدة الحية المتجددة المعطاءة، فهي ليست عنده محطةً يقف عندها مرة واحدة كل عام، ولا يوماً يعيشه كلما طلعت عليه شمس العاشر من محرم، وتنتهي صلته به عند غروبها، حتى العام التالي، بل منطلق للحياة، وموقف يُجسده في كل يوم من أيام العمر، وموطن حمله على ظهره في كل ساحة وجد بها أثراً أمويا، ونفاقاً سفيانيا، واستكباراً قرشيا، واحتكاراً عثمانيا، وفسوقاً وبغياً وفساداً وكفراً وطغياناً وظلماً وتعدياً وانحرافاً يزيديا مروانيا زياديا، اصطبغ بصبغة الدين على لحية كعب الأحبار، وألبس ولاية الأمر في الإسلام جبة معاوية، إذن فهو: حسينيٌ بالطبع والسليقة، عاشورائيٌ في كل يوم، كربلاؤه معه أينما كان.
وعليه ندرك: أن جلوسه على أعتاب محرم الحرام للكتابة، وتلمسه الدائب بالقلم منفذاً للعبور، كان معركة مقدسة، لكونه تعبيراً عن حق ديني وإنساني، ولما لم يجد وسيلة للدفاع عن حقه كانت الكتابة وسيلته الوحيدة، والقلم سلاحه الوحيد في هذه المعركة. وأي معركة؟
إنها معركة الدفاع عن أغنيةٍ ونشيدٍ حواه القلب، وترجمه النبض، وجرى به الدم إلى كل خلايا الجسد، وتمثله الحس، وذاع به الشعور، وعبرت عنه الدموع، وطارت به الكلمات، في كل اتجاه، عسى تلامس سمع المعني، وتبلغه رسالة المعنى، وتعطيه صورة مما يعانيه!
وهكذا يبقى العبور لتلك المشاعر إلى ضفة النجاة مستحيلاً، الأمر الذي يستوجب حرباً في سبيل ذلك، وكما أن العاجز عن حماية أرضه ودينه وأمته منبوذٌ رخيص، فإن العاجز عن الحفاظ على نفائس وأزهار وأناشيد قلبه، والدفاع عن مقام سكنى وملاذ روحه أكثر وضاعةً وخسةً ودناءة وبهائمية من سابقه، مهما عظم في أعيننا جرم بائعي الأوطان، واشتد مقتنا لذوي الارتزاق والعمالة، فإن الاستسلام للنوائب الرامية إلى تشريد القلوب، وقتل محتواها، هو الجرم الأشد والأبشع، لكونه يستهدف كينونة ومصير وآمال إنسان، ويبدد وجود أسرة بكاملها.

أترك تعليقاً

التعليقات