للعبرة فقط
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
كثيرةٌ هي العبر، لكن؛ أين هم المعتبرون؟! أين مَن ينطلق على ضوء هدى الله؛ ليستقرئ الواقع، ويستفيد من الأحداث، ويكتسب من تجارب الآخرين ما يقيه مرارة الفشل، ويمنع عنه السقوط في وحل الهزيمة؟!
لقد قال الشهيد القائد (رض): إن القوة العسكرية مهما تعاظمت فإنها لا تشكل ردعاً للعدو، ولا ينظر إليها إلا كعارضٍ مؤقت يمكن تجاوزه، وإخراجه عن دائرة التأثير والفاعلية، وخصوصاً إذا انصب جهد الدولة المستهدفة على بناء القوة العسكرية، تاركةً بقية المجالات التي هي بذات القيمة للقوة العسكرية للمزاج والصدفة؛ لأن العدو مهما امتلكت من ترسانة حربية، ومهما بلغ تقدمك الصناعي في مجال تحصيل ما يلزم من صواريخ وسواها لحماية وجودك؛ فإن ذلك لا يُخيفه؛ وإنما يُخيفه فعلاً ويُشل حركته، ويشعره بالهزيمة قبل بدء المعركة هو: ما تقدمه من أفكار ورؤى تنهض بمجتمعك، وتحقق له الأمن والاطمئنان، وتكسبه السمو والتقدم في مختلف ميادين حياته، وتحرره من الفقر والجهل، وتمنع عنه الظلم والاستبداد، فيكون المجتمع قريبا من دولته بقدر ما هي قريبة منه؛ تعي مشكلاته، وتسارع في حلها، وتدرك تطلعاته وآماله فتسارع لترجمتها إلى خطط وبرامج عملية يلمس آثارها في جميع ميادين حياته. هذا ما قاله في معنى كلامه هو ما يخيف الأعداء، ويجعلهم يحسبون لك ألف حساب؛ لأنه سيصنع دولة قوية، بقوة مجتمعها الذي تكامل معها واتحد بها، بعد أن ذابت فيه وعاشت له، وسخرت جميع ما لديها لأجل إيجاد الحياة الكريمة التي تليق به.
ثمة دول كثيرة ذهبت وكأنْ لم تكن، لأنها أغفلت مجتمعها، وركزت على بناء واقع قوي عسكرياً وأمنياً، ولنا في الاتحاد السوفيتي عبرة ودرس، فما الذي حدث حتى تسقط هذه القوة العظمى؟
إن هذه الإمبراطورية ليست بدعاً من الزمن، وبالتالي فسقوطها يعلمنا أن هناك أعراضا ومظاهر تسبق السقوط دائماً لأي دولة؛ أبرزها:
1. قوة صلبة عسكرية وأمنية؛ لكنها كانت مبنية على خواء مجتمعي، ولم تكن انعكاسا لقوة المجتمع، بل اتُخذت ستاراً لتغطية هشاشة الداخل؛ نعم، امتلكت موسكو حينها واحدة من أضخم الآلات العسكرية في التاريخ: جيوشا جرارة، صواريخ عابرة للقارات، مظلة نووية، جهازا أمنيا مخيفا؛ لكن تحت هذا الدرع الفولاذية كانت القوة الناعمة تتفتت، فالخدمات تنهار، والأسواق تختنق، والفساد ينتشر، والثقة الشعبية تتآكل يوماً بعد يوم. هذا الدرس الدموي لا يزال نفسه لدى أكثر من دولة ومجتمع، فالقوة العسكرية تمنع سقوط النظام، لكنها لا تمنع سقوط الدولة والشعب.
2. الغفلة عن بناء الاقتصاد القوي، بل تحوّل بمرور الزمن إلى جهاز جباية؛ فالاقتصاد السوفييتي توقف عن الإنتاج، فتحوّل إلى آلة تسحب الدم من الجسد المجتمعي العام لتبقيه حيًاً يوماً إضافياً: رسوم جديدة، غرامات، ضرائب غير مباشرة، إجبار المؤسسات المحلية على سدّ العجز. مع الوقت صار جهاز الجباية هو الحاكم الفعلي، فهو الذي يفرض ما يشاء، ويعاقب من يشاء، بلا رؤية ولا سقف. واليوم نسمع في أكثر من عاصمة نفس الجملة: «الدولة ما عاد عندها دخل غير جيوبنا». فليت الجميع يعي أن: الجباية لا تبني اقتصاداً، بل تختزن بين طياتها الدمار الحتمي لكل شيء.
3. وجود الفجوة القاتلة بين الخطاب والواقع؛ فالخطاب الرسمي كان يردد: قوة عظمى، نصر تاريخي، صمود أسطوري، مؤامرات خارجية، اقتصاد متماسك. ولكن للأسف؛ فالواقع كان عكس ذلك؛ خزينة فارغة، رواتب تذوب، خدمات منهارة، طوابير لا تنتهي في كل مكان بحثاً عن سبل العيش. وحين تتسع الفجوة بين ما يُقال وما يُرى، يدخل الناس في انفصام نفسي صامت عن السلطة.
4. العمل على تفعيل الصدامية مع المجتمع في احتكاكه اليومي مع الدولة، الأمر الذي يمزق ما تبقى من ثقة لدى المواطن بالسلطة؛ نقاط تفتيش في كل زاوية، رقابة خانقة، إجراءات إدارية مرهقة، بيروقراطية تحاصر المواطن في كل معاملة بسيطة. وهكذا يترسخ لدى المواطن شعور أن الدولة لم تعد تحميه، بل إنها تستنزفه، ولا تساعده بل هي عبء عليه.
5. التقوقع حول الذات في انغلاق أيديولوجي شلّ الحركة؛ فهناك رفض للاعتراف بالخطأ، تأجيل الإصلاح، تصنيف كل نقد على أنه خيانة، إغلاق أبواب الحوار، حكومة تعيش داخل فقاعة من المديح والتقارير المجمّلة. وهكذا؛ فكل يوم يتم فيه تأجيل للإصلاح كان يرفع فاتورة الانهيار غداً.
6. الإكثار من القصص الأمنية المختلقة التي تصبح مع الزمن بديلاً عن الحلول السليمة، بل تلبي رغبة العاجزين والفاسدين والمنحرفين والقاصرين المقصرين. وعليه؛ فكلما زاد العجز الداخلي، ازدادت الحاجة إلى «عدو خفي» يُبرّر كل فشل وعجز داخلي، فقد كان هناك دائماً جاسوس في الحي، مؤامرة تُكتشف.
كانت هذه القصص تُستَهلك كمسكن مؤقت بدلاً عن الدواء الحقيقي. واليوم نرى في مدن كثيرة: كل مشكلة داخلية تُحوَّل فجأة إلى «عملية أمنية ناجحة» أو «خلية تم تفكيكها» أو «مؤامرة كبرى أحبطناها».
وفجأة،  تتطور المسألة؛ فيصبح كل صوت ناقد لفساد، أو شاكٍ من ظلم؛ عميلا وجاسوسا. وهكذا يفقد الأمن معنى قداسته؛ فالناس في البداية يصدّقونك مرة مرتين ثلاثا، لكن حينما يزيد الأمر عن الحد يضحكون من الملل، ويكتشفون اللعبة، فيتوقفون عن التصديق نهائياً.

أترك تعليقاً

التعليقات