الإمام ومحاربة الفقر
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
قامت فلسفة الإمام علي (ع) الاجتماعية على الإيمان بأن الحقوق المفروضة في أموال الأغنياء لصالح الفقراء، كافية لرفع الحاجة في المجتمع. فهو يقول: إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما مُتّع به (أو بما مَنَعَ منه) غنيّ، وأنّه تعالى سائلهم عن ذلك.
من هنا، فإنه يكفي أن يدفع الأغنياء التزاماتهم الشرعيّة المفروضة عليهم، حتّى يكتفي الفقراء، وليس فقط ليتبلّغوا أو ليتقوّتوا، كما سنرى.
هذه النظرة تتناقض مع الاشتراكيّة، التي تلغي الملكيّة الفرديّة، فينعدم الأغنياء المكلّفون ليحلّ محلّهم المجتمع (الدولة) بصفة ربّ عمل، الأمر الذي ثبت فشله بالتجربة. كما تختلف عن الرأسماليّة الليبراليّة، التي تمنح الحريّة الاقتصاديّة للقوى الجبّارة، كي تنافس القوى الأقلّ كفاءة، وتنتهي بسحق الفئات الدنيا. ثمّ هي لا تتّفق تمامًا مع التدخليّة الحديثة، التي تؤمّن بعض حاجات الفئات المعوزة في المجتمع.
ولم يكتف الإمام (ع) بتأمين الكفاف للفقراء، بل يأمر بجعلهم يستغنون عن أي مساعدة، فهو يقول لعبدالله بن عبّاس، عامله على البصرة: أمّا بعد فانظر ما اجتمع عندك من غلّات المسلمين وفيئهم، فاقسمه في من قبلك حتّى تغنيهم، وابعث إلينا بما فضل نقسمه في من قبلنا والسلام.
ولم يغفل حتى عن كيفيّة التوزيع، بل قام (ع) بتحديد الموارد، ثم يعيّن من يجب الاهتمام بهم وكيفيّة القيام بذلك، فيقول: ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين، وأهل البؤسى والزمنى، فإنّ في هذه الطبقة قانعًا ومعترًّا. واحفظ لله ما استحفظك من حقّه فيهم، واجعل لهم قسمًا من بيت مالك، وقسمًا من غلّات صوافي الإسلام في كلّ بلد، فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكلٌّ قد استرعيت حقّه، فلا يشغلنّك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه، فإنّ هؤلاء من بين الرعيّة أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكلّ فأعذر إلى الله في تأدية حقّه إليه. وتعهّد أهل اليتم وذوي الرقّة في السنّ، ممّن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل والحقّ كلّه ثقيل. وقد يخفّفه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبّروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لهم.
إن هذا الاهتمام ما كان ليقتصر على المسلمين، بل يطال غيرهم. فقد صدف أن رأى الإمام (ع) شيخًا يتسوّل في الطريق، فاستغرب الموقف وسأل كيف يحصل ذلك. فأجيب: إنّ الرجل من أهل الذمّة. فوبّخ أصحابه المسؤولين عن الأمر، قائلاً: أستعملتموه حتّى إذا كبر وعجز منعتموه؟ أنفقوا عليه من بيت المال.
ومن أجل أن تتكامل العمليّة الاقتصاديّة الاجتماعيّة، يأمر عليّ (ع) عامله: أن استوصِ بالتجار وذوي الصناعات وأوصِ بهم خيرًا، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفّق ببدنه، فإنّهم موادّ المنافع وأسباب المرافق، وجلّابها من المباعد والمطارح، في برّك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنّهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته. لكن تفقّد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقًا فاحشًا وشحًّا قبيحًا، واحتكارًا للمنافع، وتحكّمًا في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامّة وعيب على الولاة. فامنع من الاحتكار فإنّ رسول الله منع منه، وليكن البيع بيعًا سمحًا، بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع. فمن قارف حكرة بعد نهيك إيّاه فنكّل به، وعاقب في غير إسراف.

أترك تعليقاً

التعليقات