مرض الخطاب الإعلامي
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
إذا كان كل قطاع في المجتمع يشكل أو يعكس صنعة ما، فالإعلام ما كان له أن يبلغ منزلة رابعة السلط أو سلطة السلط، لو لم يكن هو صنعة الصنائع. فالدجل السياسي والبؤس الاقتصادي والاضمحلال الاجتماعي، كل هذا الحطام ليس له لسان يسوغ به مشروعيته إلا إعلامًا غدا ليس مجرد تابع للمقاولة فحسب، بل أصبح هو المقاولة نفسها، خاضعة لشروط الاستثمار في الحقيقة والخبر. فالإعلام الهجين في بلادنا العربية قسمان: قسم أعمى غارق في المديح. وقسم أعمى هو الآخر غارق في الهجاء، وكلاهما “المديح” و”الهجاء” المغرقان، طرفان أقصيان لموقف تعادلي مفقود، يمثلان مرض الخطاب الإعلامي العربي.
الوعي يبدأ من هنا، من الثورة على الإعلام, وإخضاعه لمراقبة منتجي الوعي والتنوير في عالمنا. لا أتحدّث عن إقليمنا المتخلّف فحسب، بل عن العالم باعتباره غدا مسرحا للميديوقراطية: ديكتاتوريا الصوت والصورة واستغباء العقل.
هنا لا بدّ من استراحة مقاتل، الصّمت، هذا الأخير وسيلة لمقاومة الضجيج الإعلامي الذي يشلّ الوعي، الصمت هو مرحلة التحلل من ثقل الصوت والصورة ومحمولاتهما، حالة استرخاء يقتضيها الوعي ليستأنف مرحلة الوعي بتاريخ من الخداع مارسته الميديا باسم التحرر والديمقراطية ومهنة المتاعب، يشبه دور الأجراء في الميدوقراطية، دور الممرض المساعد في ورشة المتاجرة بالأعضاء البشرية، فكل شيء هنا أيضا يتم بمهنية.
إن العنف الذي يمارسه الإعلام ضدّ العقل الجمعي لا حدود له! تعذيب يومي، واستهداف لا يتوقّف، إنّها حرب غير مباشرة على الجمهور، فلم يعد الأمر يتعلق بحرب إعلامية تستهدف العدو بل أصبحت حربا ضد الجمهور نفسه من أجل إخضاعه وفرض صورة زائفة عن الحقيقة التي يتطلع إليها المتلقّي.. فأي قيمة للتطور في تقنية الوسائط إن كانت في نهاية المطاف لن تقدم إلاّ معلومة مغشوشة للمستهلك؟
خلف الإعلام توجد سياسة إعلامية.. وهناك وجب التوقف لاختبار أسباب نزولها.. فقد تكون سياسة تستهدف استرقاق الوعي وقد تكون سياسة تهدف كسر الحواجز أمام الحقيقة، ففي الحالة الأولى هناك استخفاف بالعقل الجمعي يستدعي استغلاله، وهنا تتعاطى السياسة الإعلامية الإمبريالية مع المتلقّي كقاصر وكموضوع إثارة ليس إلاّ، وهي تطبّق عليه نظرية بافلوف بخصوص الإثارة ولعبة المثير وغسيل الدماغ.
إنّ السياسة الإعلامية الإمبريالية تقيم قياسا في ردود الفعل بين الكلاب والبشر. وهكذا اهتدت إلى وضع اليد على الإعلام باعتباره وسيلة إخضاع وغسل دماغ وتحوير الأفكار وتزييف الأحداث.
إن كان هناك من يعتبر أن الإمبريالية والرجعية تصرف كل هذه الأموال لغرض الترفيه وخدمة المشاهد فه واهم حدّ الغباء! ففي كلّ لقطة هناك رسالة وفي كل كلمة هناك فعل ممنهج لغسيل دماغ المشاهد.
لسنا أمام محاولة لغسيل الدماغ بالمعنى الذي يفيد تغيير الأفكار وتعديل النظر عبر نظرية بافلوف التي أجريت على الكلاب فحسب، بل أحيانا تصبح الميديا وسيلة لتحويل المشاهدين إلى كلاب حقيقية دورها أن تنبح وتنتظر وجبة من الصوت والصورة تدرك مسبقا مواقيتها.. تعويد العقل على أنماط من الفرجة والبرامج كافية لكلبنة الإنسان وتحطيم قدرته على الاختيار.
إذا كنت خبيرا بألاعيب الإعلام ستجد في خريطة البرامج التي انتهى إليها التلفزيون تحديدا نوعا من الإكراه «الوعياني» للخضوع والجلد المكثّف للذّائقة في سبيل الوصول إلى حالة القبول العام بالرداءة في الصوت والصورة والثقافة. من هنا يتضح أنه إذا كان الشارع ينوء بالتفاهة فلأنّ التلفزيون يلعب دور التربية على القبول بالأذواق الدّنيا في كل مناحي الحياة.
إنّ العصر القادم هو عصر التحكم بواسطة الصورة أو بتعبير آخر هو عصر الميدوقراطية (La Média-cratie).. تعابير تكرست في المعجم السياسي.. مثل الفيديقراطية الذي ظهر في الاستعمال الإيطالي في تسعينيات القرن الماضي (La videocrazia) مع الصعود السياسي لبرلسكوني، رجل السياسة الذي يملك المجموعة الإعلامية الأضخم التابعة للشركة القابضة (Fininvest).. وعلى غرار ذلك سنجد مصطلحات تقترب من المعنى راجت في نقد الهيمنة بالإعلام مثل التيلي-قراطية (télécratie).. ستنشأ بعد الهيمنة على الميديا سيولة في استعمال الديمقراطية التي تعني الحق في المشاهدة وليس الحق في المشاركة.. يغيب هذا المفهوم من حقل الميديا حيث نقف على شكل من التوتاليتارية المقنّعة. ففي الغرب أو الشّرق ليس هناك سوى الخضوع، ودفتر تحمّلات يشبه العمل داخل مؤسسة المافيا! فلا تتعجّب إن رأيت أشكالا من الطّرد التعسفي داخل شبكات الإعلام المجنّدة في الحروب: تغيير الولاءات، الاختلاف حول الصفقات، الحسابات الداخلية نظرا لاختلاف المصالح.. فالميديا هنا كشبكة حاكمة، والدخول أو الخروج منها يخضع لقواعد الانتماء إلى تنظيم المافيا.

أترك تعليقاً

التعليقات