من موجبات هدر الكرامة
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
لانزال نسير مع القرآن المتجسد وعياً وسلوكاً وحركةً، والدينِ الحق المنحاز لعامة الناس، المعادي للتجار والكهنة والرهبان والأحبار وعلماء السوء، المتصدي للفراعنة والظالمين، المقيم للعدل والمساواة وصون حقوق الناس وكراماتهم، والذي كان يجتهد أيما اجتهاد لتحقيق الغاية من وراء إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وهي إقامة العدل في الأرض كلها، واحتضان كل هموم وآلام وآمال وتطلعات ومآسي العالمين على أساس الرحمة، نعم الرحمة. لانزال مع أمير القلوب والعقول الإمام علي عليه السلام.
وسيرنا معه ليس ترفاً، ولا نزهةً، ولا استعراضاً، وإنما هي الرغبة الصادقة، النابعة من الشعور بالحاجة الملحة لتصحيح النظرة، وتصويب الفكرة، وبيان اللبس الذي وقع فيه الكثيرون في ما يخص الحاكم والمحكوم، وعلاقة كلٍ منهما بالآخر، حتى إن هناك بعض مَن يدعون توليه عليه السلام قد جانبوا خطه، وجافوا نهجه، ورغبوا عنه إلى سواه، وذلك بعد أن ذاقوا حلاوة السلطة، وتربعوا على كراسي النفوذ والحكم، وتنعموا بموفور المال، وعلو الجاه، الأمر الذي جعلهم يفترضون لأنفسهم القداسة والطاعة في الحق والباطل، وبات المديح والثناء هو المطلوب من الجميع تجاههم في كل حال.
لذلك نحن مع علي، لكي نعيد لهذا المشروع اعتباره، ونحمي ثورتنا من الالتفاف عليها من الداخل. تذكر لنا كتب الحديث موقفا للإمام علي تبين من خلاله شخصيته الصلبة والفذة، فعند وصول الإمام (عليه السلام) إلى أرض الأنبار -إحدى مدن العراق الحدودية- خرّ جمع من الدهّاقين ساجدين أمامه، بحسب التقاليد التي اعتادوا عليها، فغضب الإمام من فعلتهم هذه وصرخ فيهم: ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خُلُقٌ منّا نعظّم به أمراءنا.
فقال: «والله ما ينتفع بهذا أُمراؤكم، وأنّكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم وتشقَون به في آخرتكم، وما أخسر المشقّة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار».
وفي رواية أخرى؛ وقد لقيه عند مسيره إلى الشام دهاقين الأنبار، فترجّلوا له واشتدّوا بين يديه، نزلوا عن خيولهم مشاة وأسرعوا إليه، فقال لهم:  مَا هذَا الَّذِي صَنَعْتُمُوه؟ فقالوا: خُلُقٌ مِنَّا نُعَظِّمُ بِهِ أُمَرَاءَنَا.
فقال (عليه السلام): وَاللهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهذَا أُمَرَاؤُكُمْ! وَإِنَّكُمْ لَتَشُقُّونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِكْمْ [فِي دُنْيَاكُمْ،] وَتَشْقَوْنَ، بِهِ فِي آخِرَتِكُمْ، وَمَا أخْسرَ الْمَشَقَّةَ وَرَاءَهَا الْعِقَابُ، وَأَرْبَحَ الدَّعَةَ مَعَهَا الاَْمَانُ مِنَ النَّارِ!
هنا تأسيس مهم من قبل شخصية كانت بموقع متقدم من الأمة والجمهور، بل هي في قمة الهرم، إلا أنه كأمير وكخليفة رفض أن يتم التعاطي معه بنفس طريقة التعاطي مع الجبابرة والطغاة.
والمشقة التي ذكرها الإمام علي كإحدى ثمرات هذا السلوك في الدنيا، هي تكريس تمكين الحاكم من رقابهم واستحكامه في قيدهم كعبيد، بالتالي تحويله لفرعون عليهم لا يستطيعون نتيجة تعظيمهم له وتضخيمهم لذاته أن يقوّموا اعوجاجه أو يصوبوه إذا سلك باطلا أو هضم حقا أو سلب مالا.
هذا فضلا عن تربية النفس الإنسانية وتهيئة قابلية الاستبداد بها، بحيث تستقر في أعماق ولاوعي العقل القابلية للاستعباد والاستبداد، فتنكفئ فطرة التوحيد والعبودية لله وحده...
هذا السلوك الاجتماعي سيتحول لعادة ثم فرض واجب، ثم يصبح تدريجيا دينا يدين به الناس. وتتحول قابلية الاستبداد والاستعباد بهكذا أنماط سلوكية إلى تراث يرثه الأجيال ويرث به الحكام استبدادهم واستعلاءهم على الناس...
بالتالي الناس من سيكون الخاسر الأكبر، كونهم يؤسسون بذلك للظلم لا للعدل وسيشملهم هذا الظلم، بل سيقودهم سلوكهم ليكونوا أول ضحايا هذا الحاكم. هذا فضلا عن هدر كرامتهم والتضييق عليهم في عيشهم وانقيادهم كعبيد للحاكم لا لله.
ومن موجبات هدر الكرامة وامتهان الإنسان لإنسانيته أن تتحول وظيفته التي خلقها الله لأجله وهي الخلافة التي تكتنز الشراكة والرقابة والتقويم، إلى عبودية تكتنز الاتباع الأعمى وتكريس ثقافة القطيع والنعاج.
بل اعتبر هذا التعظيم أمرا لا ينتفع به الحاكم في شؤون الحكم، فوجود بطانة وظيفتها التطبيل للحاكم والتعظيم والتفخيم، أو ما يقوم به بعض المحيطين بالحكام من تدليس وتزيين للباطل والظلم هو مظهر من مظاهر السجود، كون حركة السجود في ذلك الزمان لها دلالات التعظيم والتفخيم والتسليم بعبودية للحاكم، وأي سلوك يحقق نفس الغايات هو سلوك مشمول في توصيف الإمام علي عليه السلام، وهنا الأمراء قد لا تخص فقط الحاكم، بل كل من له موقعية قيادية ونفوذ وسلطة يمكنه من خلالها التسلط والتحكم فإن التعاطي معه بنفس الطريقة سيكون مشمولا بتوصيف الإمام.
فتغير لغة الجسد لمجرد حضور أصحاب النفوذ والسلطة من أي جهة كانت سواء سياسية أو دينية أو اجتماعية، هذا التبدل الذي يوحي بدلالات القداسة والرهبة والخضوع وقابلية الاستعباد، هو ما يرفضه الإمام ويعتبره مشقة في الدنيا وشقاء في الآخرة وينهى عنه رغم أنه الإمام والخليفة.
وأما في الآخرة فسيكون حسابهم مضاعفا رغم مشقتهم ومعاناتهم من الحاكم في الدنيا، كونهم من مكنوه على رقابهم وعبدوه دون الله، وأسسوا بسلوكهم أساس الظلم وصنعوا بذلك فراعنة وآلهة تعبد دون الله. وفي يوم القيامة يتبرأ هؤلاء المستبدون من كل من اتبعهم وأقرهم على سلوكهم.
والدّعة التي عناها هي عكس المشقة التي صنعوها بسلوكهم هذا، بالتالي تكون سلوكا معاكسا للسجود للأمراء وتذليل النفس لهم، فيكون السجود لله والعبودية له وحده، والتعاطي مع الحاكم من موقع المسؤولية المشتركة التي يراقب فيها الناس الحاكم ومدى انتظامه في طريق الحق، وتأديته لحقوق الشعب وعدم ظلمه.
ورغم أن الرواية الثانية لا تذكر السجود لكنها تذكر سلوكا شبيها يحقق نفس ما يحققه السجود، وهو إظهار التذلل والانكسار أمام الحاكم. إلا أنها كلها سلوكيات تغير الهدف الوظيفي من الخلقة.
هذا فضلا عن مناصحته و اعتباره في موقع تكليف لا تشريف.
وهذا السلوك يحفظ قيمة الإنسان وكرامته، وحقه في العيش الكريم وضمن حدود العدالة الاجتماعية.

أترك تعليقاً

التعليقات