لأن النفوس هي ميدان عملنا
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
لا يكفي الحركات النهضوية التحررية ذات التوجه الإسلامي كي تحافظ على منجزاتها، وتضمن حيويتها واستمرارية البقاء القائم على القدرة على العطاء والتجدد المبدع والخلاق الذي يبقيها في الصدارة دوماً؛ الركونُ إلى صحة المفاهيم والأسس والرؤى والمنطلقات التي صاغت بموجبها أهدافها وغاياتها القريبة والبعيدة، وبنت من خلالها توجهها العملي العام والخاص، إذ لا بد من السعي لامتلاك المعرفة العلمية، كي لا تتكرر المأساة التي وقعت على حركات نهضوية في الماضي لدى حركات الحاضر، فقد انطلقت من فراغ معرفي واضح، وبرغم صحة ما تحمله من مفاهيم؛ أصابها الفشل والهرم والشيخوخة، وعادت أرذل العمر، تجر أذيال الخيبة والتلاشي وانعدام الوزن، لا لشيء إلا لأنها لم تركز على الجانب العلمي والمعرفي، وذلك بالسعي لبناء وإعداد وتربية وتخريج كوادر علمية وثقافية، تمتلك الفكر الواعي والشامل لكل جانب من جوانب الحياة، وبالمستوى الذي يحقق لها الحضور الكبير والوازن في كافة المحافل العلمية، لكي تتمكن من إثبات ذاتها أمام مجمل الحركات والتيارات الأخرى، وتحصل على السلاح المطلوب لحسم كافة المعارك التي تواجهها مع تلك التيارات لصالحها، الأمر الذي أوصلها في نهاية المطاف إلى الوقوع في أتون السطحية الفكرية، التي جعلتها تكتفي بما لديها من كوادر ذات قدرات وإمكانات محدودة، ومعارف وعلوم بدائية وبسيطة، وتسند جل نشاطها الفكري والتربوي إلى مجاميع وفرق وتشكيلات تضم بين صفوفها شخصيات من أنصاف وأرباع المثقفين والمتعلمين، وشيئاً فشيئاً تراجع وانحصر دورها، وخفتت جذوة الطموح والأمل بالخلاص لدى أتباعها، حتى باتت مجردة من كل المقومات والعوامل التي تستحق على ضوئها أنْ تُسمى حركة شاملة، إذ غدتْ مجرد إضافة لجسد ميت، يسمى حزباً سياسياً، إلى كومة من عظام نخرة، وأجساد بالية لكثير من الأحزاب والتنظيمات التي سبقتها بالفناء!
أما الحركات التغييرية الحاملة لثقافة الإسلام الأصيل؛ فإن المسؤولية تجاه هذا الأمر عليها أكبر، والذنب والجرم الناتجين عن تقصيرها أنكى وأشد! كونها تعي أن ميدان عملها هو نفوس مجتمعها وأمتها. ومادام الأمر كذلك فإن أول ما يجب أن يستقر في ذهنية العاملين في إطار تلك الحركات من موقع الانتماء الحقيقي الخالص هو ضرورة العمل الدائم والجاد والواعي والشامل من أجل الحفاظ على النفس البشرية، وتحقيق كل ما يضمن لها الحياة الطيبة، وبما أن المجتمع والأمة يحتاجون إلى وجود حركات نهضوية لا تكتفي بتحقيق نهضة وتغيير آنيين، وإنما تصنع من النهضة الواحدة نهضات متعددة وشاملة لكل مفردات الواقع، وحية بحياة الزمن، الذي لا يزيدها تعاقبه إلا رسوخا وعمقا وسعة وقوة وامتدادا إن ضربت تلك الحركات صفحاً عن كل تلك المشكلات التي يعاني منها العالم الإسلامي الكثيرة، التي تتطلب وجود روحية قادرة على تحقيق سلسلة متتالية من الإنجازات التي تنشد الكمال والنهضة الشاملة، والتي لم تبلغها حركة حتى اليوم، وإن نجحت بعض الحركات بنسب متفاوتة في درجة ذلك النجاح، وفي حقول محدودة، فإن الكثير من تلك الحركات قد حصدت الفشل والخيبة، فذهبت بلا رجعة، وغير مأسوفٍ عليها.
نعم؛ هنالك حركات أُجبرتْ على المراوحة مكانها، مكتفيةً بما سبق لها أنْ تمكنت من إنجازه، مسخرةً كل قواها وإمكاناتها للحفاظ عليه، نتيجة كثرة التحديات والمخاطر التي تتربص بها، لكن ذلك لا يعفيها من المسؤولية في ضياع الأمة وركودها وتراجعها على كل المستويات، فقد كان متاحا لها أن تحافظ على منجزاتها السابقة، دون أن تغرق نفسها في هم الحفاظ على ما تم تحقيقه، إلى الحد الذي أنساها المهمة الأساسية لوجودها وهي السعي لإكمال المسيرة باتجاه الغايات والأهداف العامة والخاصة.
وقد حفظ لنا التاريخ الحديث والمعاصر الكثير من أسماء لحركات وتيارات وتنظيمات إسلامية قامت بتأجيل ما يجب فعله بهذا الخصوص، بحجة التفرغ لما هو أهم، ولما انتهت من مهمتها تلك نسيت كل ما كانت تقنع جماهيرها بتأجيله، حتى إن بعض تلك الحركات قامت بالتضحية بما يجب تحقيقه، بغية الحماية لما قد تحقق، ولو على حساب المبادئ والقيم التي يتضمنها المشروع!
وهكذا اهتزت ثقة الناس بها، وفقدت مصداقيتها، وشيئاً فشيئاً خفت ضوء وإشعاع نجمها التقدمي الباعث على الحركة، إلى أنْ أصبحت جامدة معطلة لا روح فيها!
إن وقوف الحركات على الحفاظ على ما سبق لها أن أنجزته؛ عاملٌ رئيسٌ في تعطيل مسيرتها الداخلية نحو الكمال، وحجرُ الأساس الذي بنت عليه حتمية زوالها، كونها نظرت تحت أقدامها في الوقت الذي تسير فيه الحياة من حولها بسرعة البرق، لتبدو بعد ذلك بمظهر الأشياء التي لا اعتبار لها سوى بالمتاحف، إذ توحي بالقدم والماضوية، ولا شيء يرجى منها في طريق ما استجد من الأمور على مستوى الحاضر والمستقبل.
وكيف لها أن تتفاعل وتواكب كل جديد، بل تسهم في خلقه وتكوينه؛ وقد كانت تنظر إليه بعين الريبة والخوف الشديدين، ليصير المستقبل ضحية من ضحاياها، وإذا ما نبهها المحيط لشدة ما ينتظرها من خطر، سيعصف بها، ويقتلعها من الجذور؛ مارست عليهم ما كان يُمارس عليها من قِبَل السلطات التي ثارت عليها، فبعد أنْ كانت تصرخ من ظلم الآخرين؛ غدت تمارسه تجاه كل مَن يهدف لمدها بالعناصر اللازمة لكي تبقى على قيد الحياة!
لقد اعتقدت الكثير من الحركات والتنظيمات أن لا أهمية لوجود مثقفين موسوعيين وعلماء في كل المجالات في صفوفها، واعتبرت المهم هو وجود الجيل المقتنع بالمشروع والتوجه، ولو لم يكن متعلماً! متناسيةً أن منح شخصيات غير مفكرة زمام نهضات وحركات كبرى أفقدها القدرة على التأثير، وأفرغ مشروعها الشامل من محتواه، بتحويله إلى كائن ميداني، لا هم له سوى ملاحقة الأوضاع السياسية والاجتماعية والعسكرية والأمنية، وبطريقة عشوائية، تعتمد الصدفة والمزاج والآنية في معالجة سائر تلك الأوضاع، ولا تكاد تصلح جانبا، إلا وأفسدت أكثر مما أصلحت في جانب آخر. ولذلك فمن الطبيعي أن تصبح أطروحاتها فاقدة للعمق الفكري والامتداد الثقافي والرؤية الاستراتيجية التي تمكنها من وضع كل شيء في موضعه الصحيح، وبما يحقق للواقع كله التماسك والتوازن، فلا يختل شيء لكي يستقيم شيء، ولا يُضحى بقضية أو مجال من أجل الحفاظ على قضية أخرى، ومجال آخر.

أترك تعليقاً

التعليقات