ماذا بقي من إنساننا؟
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
لايزال الاقتصاد في المجتمع العربي ريعيّاً وجبائيّاً. وقوامه ليس في مردوديته وأدائه الإنتاجي، بل قوامه استنزاف المواطن وشل قدرته الشرائية بحصار متعسف من الضريبة على القيمة المضافة، حقّاً مفروضاً على المستضعفين من الطبقات السفلى من الناس من الذين لا حيلة لهم أمام عاصفة المحسوبية والتعقيدات الإدارية التي تشكل المستنقع الآسن لازدهار الرشوة وانفلات أباطرة المال وكبار الإقطاعيين وكهنة نظام الامتيازات وصيادي “الكوطات”. ولا حديث بعد ذلك عن غياب إجراءات الرقابة على المال العام وغياب مساطير واضحة وشفافة تجعل المعاش وحساباته ظاهراً للعموم. وتجعل سراق المال العام المستهدف الأول للقانون وليس طلاب الحقوق.
وحينما تصبح الرشوة والمحسوبية وانهيار العدالة الاجتماعية ثقافة شائعة، أو ربما عقيدة راسخة، كان لزاماً على الاقتصاد عندنا أن يصبح مجالاً خارج نطاق ما يعرف بإشكالية الإنتاج والاستثمار والتنمية المستدامة... بل يغدو بالدرجة الأولى موضوعاً أخلاقيّاً، مادام هناك غياب لحد أدنى من أخلاقيات العمل وأخلاقيات التوزيع. وإذا كانت ركيزة الرأسمالية الملبرلة متقدمة بأخلاقيات العمل وحريته: دعه يعمل، فإن ما لم تقف عليه هذه “الويبرية” الوصفية، أن لا نهضة إلا على جناحي الحرية والعدالة. أي “دعه يعمل”، وأيضًا “اعطه حقه”. أخلاقيات عمل إلى جانب “أخلاقيات توزيع”.
ثم ماذا تبقى للعرب من ماء الوجه، وقد وضعوا في آخر قائمة الأميين في العالمين، وهم الأمة التي أول من ناداه الوحي بـ”اقرأ” كما يقولون. وماذا تبقى من ضمير وقد أصبحنا جميعًا أعجز ما نكون عن إنتاج ما يعادل ربع الإنتاج الألماني نحن العرب جميعًا، وقد تربعنا بغباء فوق أكبر احتياطي عالمي  للطاقة. وأي كرامة للمتشدقين بالتنمية المستدامة، وقد قبلنا بدفن النفايات النووية في أتربتنا الوطنية، وبعد أن شفطنا كل خيرات الأمة لصالح إنفاقات احتفالية فرجوية. فيما المعذبون الحالمون من هذه الشعوب تدفع فاتورة التهميش. ولا نقول إن المسألة هي مسألة إنتاج فقط، بعد أن ظهر أنه حيثما تراكم لدينا ما به ندفع قاطرة الإنماء أشواطًا، برز من خفافيش الظلام من يمد يده إليه ناهبًا، كي يعيدنا إلى قاع صفصف حيارى في دائرة السوء نمد اليد الذليلة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمساعدات الخارجية المشروطة؛ قاصمة الظهر. فإذا بالمسلسل يعود كما بدأ، ترسانة إملاءات تخليفية تحثنا على شد الزنار تقشفًا بلا غاية تحد من معاناتنا نحن الأمة التي لازالت تئن من غلواء الحصار. فيما العيون الزائغة على كل ما تراكم قليلًا أو كثيرًا تتربص به، في مسلسل تنموي تراجيدي، هو أقرب إلى محاولات كتب عليها الترنح في هذه الدحرجة السيزيفية الأزلية. فأي إنسان بقي لنا، نراهن عليه في نمو ونهوض حضاريين، وقد فتك به التهميش وتآكل في دوامة العطالة حتى غدا هاربًا من ظله مستمسكًا بقشة حلم تمحوه فواجع قوارب الموت أو شاهرًا سيف الجريمة الموصوفة مروعًا الآمنين، ممن لا يزيدون على حاله المنكوب إلا بما يسد الحد الأدنى من ضرورياتهم أو يرفعهم قاب قوسين أو أدنى من ذل السؤال. حتى بتنا نفاجأ بأبنائنا، طفولة معذبة ضائعة على أرصفة التيه والانحراف، لا يتسع لهم سوى الليل وأهواله أو زمهرير حاويات النقل في رحلات الشتاء والصيف إلى حيث عالم الجنة الموعودة التي عرفناها لهم كإنجاز مستحيل علينا وإن كدحنا كدح السنين. أو لعلنا فوجئنا بهم على الشطآن ملفوظات بحرية بعد أن خضعوا لغريزة المستثمرين في البؤس، وربما فوجئنا بهم معروضات أيروتيكية لسدوم الجديدة.. فمظاهر البؤس والتهميش لا تعد ولا تحصى. وبعد ذلك، أي مصداقية لنا نحن من يملك أكبر احتياطي دولي للطاقة، أو نحن من يملك سلة العالم العربي في قطره الواحد. لا بل نحن الأمة التي تملك أن يكون قطرها الواحد سلة العالم الغذائية رغمًا عن الأكذوبة المالتوسية.
نحن من يملك أكبر احتياطي من الشباب ومن الأدمغة المهاجرة. هذا مع أننا نملك مفاتيح هذا التخليق التنموي، ونحن من لايزال يقرع مسامعنا حكمًا “إيكونوميتريا” من إمام المستضعفين: “ولعل باليمن من لا عهد له بالشبع”. أو قوله تحسرًا على الرعية في خشونة العيش: “أو مشوي الكراكر في بيت أمير المؤمنين”!

أترك تعليقاً

التعليقات