تعدد وجوه وأيادي خرقاء مكة
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
قاتل الله حب الظهور، فكم له من ضحايا! إذ لا يكاد ينقضي الأسبوع إلا وقد أرانا مصرع إحدى الشخصيات التي تعطي نفسها الحق في قول ما تشاء تعبيراً عن تفاعلها مع كل حدث، وتأكيداً على قدرتها الخارقة في كشف الخبايا، وتفسير الظواهر، واستنتاج ما يجب فعله على كل المستويات، وليت الأمر ظل مقتصراً على الأحداث السياسية، وما يتمخض عنها من قضايا ومتغيرات، ولكنه قد تجاوز هذا الميدان إلى سواه، فبتنا نسمع عن ترهات تستهدف النيل من أشياء علمية بحتة، لا يصح التعامل معها إلا عن طريق البحث الدقيق، والدراسة التجريبية المعمقة، ولكن مَن يقنع هذه الشخصيات التي لا يعنيها سوى الخروج للناس بما تقوله أو تكتبه كيفما اتفق، فهي لا تكترث بمستوى مطابقته للحقيقة، أو مجانبته لها، ولا تستشعر المسؤولية في كل ما تطرح، بحيث تصبح مدركة لطبيعة ما سيترتب على طرحها ذاك من آثار إيجابية أو سلبية تنعكس بالضرورة على الوعي الجمعي، إذ المهم عندها هو أن تبقى في طليعة المتكلمين عن كل قضية، والمتحاورين في كل مساحة، والمتصدرين لعالم الفضاء الرقمي، والمعنيين برسم السياسات وإعداد الخطط والبرامج الفكرية والعملية، وكأن كل شيء في الحياة لن يستقيم، ولن يدوم إلا عندما ترى فيه رأيها، وتصدر فيه حكمها؟
إن المسألة باختصار توحي بأن لدينا شخصيات لاتزال تعيش حالة من الطفولة الفكرية، والمراهقة الأيديولوجية، والطيش السياسي، وفي مثل هذه الحالة التي تكونت من خليط من الأمراض لن يكون النقد أو التوعية أو التأنيب ذا فائدة مع هذه الشخصيات، الأمر الذي يمنح بعض الناشطين الذين كتبوا تحت هاشتاغ «خذوا منهم جوالاتهم»، الحق كل الحق، فلا شيء ينفع مع هذه الشخصيات سوى الحجر والمنع، حتى تتجاوز محنتها، وتخرج من واقع الإدمان الذي تعيشه من خلال شبكات التواصل، إلى الحد الذي يجعلك تتساءل عندما تجدها على مدى اليوم والليلة متصلة، تنشر، تعلق، تغرد، تشارك في المساحات الصوتية النافعة والضارة: هذه الشخصيات متى تنام؟ ومتى تستيقظ؟ ومتى تقوم بواجب المسؤولية الملقاة على عاتقها؟ وكيف تقضي ساعات الدوام الرسمي؟ وماذا بقي لأسرها وذويها من الوقت، لاسيما وبعضها لديه أكثر من بيت وزوجة؟ وهي أسئلة منطقية جداً، إذ سنتوصل عبرها إلى الحقيقة التي تقول إن مَن يجعلون حياتهم مقتصرة على «تويتر» وغيره، هم الأشد ضعفاً وتقصيراً في واقع الحياة العام والخاص، باعتبارهم منفصلين عن الناس، وعن ذواتهم، يعيشون كروبوتات في العالم الافتراضي وله فقط لا غير.
لقد أتعبت هذه الشخصيات المشتغلين بالترقيع وراء المسؤولين، واستنفدت كل طاقاتهم، فلا يكادون ينتهون من إصلاح شرخ هنا، أو إخفاء ثقب أو ردم هوة هناك، إلا وانتقلوا إلى ما يفوقها عدداً واتساعاً في مكان آخر، لأنهم في الحقيقة أمام تعدد وجوه وأيادي ومواقع خرقاء مكة لا أقل ولا أكثر.

أترك تعليقاً

التعليقات