سنة الفرز والإمازة
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
لطالما حرصت القيادة على تربية المنتمين إلى هذه المسيرة كأنصار لله سبحانه، وذلك بأن يتمثلوا القرآن الكريم في كل مضامينه التي تعطيهم بجميع ما اشتملت عليه من أحداث وقصص ومواقف وقضايا، الإيحاء الدائم بأن عليهم تعزيز ارتباطهم بخط الهداية، وتأكيد صلتهم بجميع الأنبياء والرسل ومجتمعات الخير والصلاح، عبر التاريخ البشري، لأنها مسيرة واحدة لدين واحد هو الإسلام، وما هم اليوم إلا جزء من هذا التاريخ الرسالي الطويل، وحلقة صغيرة تتصل بالسلسلة الممتدة من آدم (عليه السلام)، حتى سيد الخلق أجمعين وخاتم الأنبياء والمرسلين محمد (صلوات الله عليه وآله).
ومن أجل تعزيز هذه الصلة لا بد من التمسك بالثقلين، اللذين من خلالهما نحصل على المفاهيم الواضحة والصحيحة، ونرد الينابيع الصافية والنقية التي لا يخالطها كدر، فنحصل على ري ظمأ المعرفة من أوسع طريق، وهكذا تتكون لدى المنتمين الشخصية الكاملة، التي تتخذ الإيمان هويةً لها، بدءاً من الإيمان بالله رباً واحداً لا شريك له وانتهاءً بالتحرك المعلن للجهاد في سبيل الله.
ليس المنتمون لجبهة الحق على قلب رجل واحد، فدائماً سيبقى هناك بون شاسع بين مَن يتقدم الصفوف، مسابقاً الزمن في حالةٍ من السعي الدائم، والمسارعة الدؤوبة إلى الله، من واقع التزام بوحدانيته، وتأكيد الخضوع المطلق له سبحانه، في عبوديةٍ خالصةٍ لا تقبل الشرك، وتوجهٍ شاملٍ أساسه الرغبةُ بنيل رضاه، وإثبات مدى ما بلغته محبته في القلوب، وكيف انعكس ذلك على الروحية المسكونة بالرغبة والرهبة، اللتين تجعلان صاحبهما يحسب حساب الله سبحانه، في كل فكرةٍ تخطر على ذهنيته، وفي كل قولٍ قبل النطق به، وفي كل خطوةٍ يخطوها، أو عملٍ يعمله، أو موقفٍ يقدم عليه في أي مجال من المجالات، وتجاه أي قضيةٍ من القضايا المختلفة، فهو قبل أن يؤيد شخصاً أو تياراً، أو جهةً أو فكرةً، يرجع إلى كتاب الله، لكي ينظر هل تأييده ذاك منسجمٌ مع تعاليم الله، ومتمثل لما أمر به عباده؟ أم أنه كان تلبيةً لهوى النفس، ونزولاً عند ما اختارته نزعةُ العصبية، أو غريزةُ الطمع الدنيوي، أو سمة الغرور وحب الإطراء والتباهي على الناس، أو مرض الرياء الذي لا هم للمصاب به سوى كسب قلوب الآخرين، وإيجاد المكانة المرموقة، والسمعة الطيبة بينهم لا غير، وكذلك هو الحال فيما لو أنه اختار الوقوف من الأشياء سواءً كانت أشخاصا وتيارات، أو أفكارا واتجاهات ومبادئ وسلوكيات، موقفَ المعارضة والرفض، الذي قد يتطور في كثيرٍ من الأحيان إلى الدخول في حرب معها في أكثر من اتجاه أو ميدان قد يكلفه حياته، فإن المقياس الذي يقيس به الأمور، ويضبط من خلاله ردات فعله تجاهها هو كتاب الله تبارك وتعالى، وبين مَن يعشق الشهرة، ويسعى دائماً لجعل كل الأضواء مسلطةً عليه، ويرغب أن تكون له الصدارة في المشهد، ولا يحب أن يتقدمه بذلك أحدٌ من العالمين، إذ يرى لنفسه الحق في أن تصير شغل الجماهير الشاغل، بحيث يجعلون من أقواله وأفعاله وقناعاته الأساس لتفكيرهم وقناعاتهم ومواقفهم، فهو الدين والقيمة والقضية والمبدأ والثورة، وكل شيء، أما ما عداه فلا قيمة ولا اعتبار ولا وزن له.
ولعل طبيعة الاختلاف والتناقض بين النوع الأول والثاني ترجع إلى اختلاف النظرة للحياة والكون والإنسان بين كليهما، فالأول: إلهي النظرة، قرآني الفكر، رسالي الوجهة والهدف، الأمر الذي يجعل من شخصيته مثالاً لتمام مكارم الأخلاق، والتزام أنبل الصفات الحميدة، وعنوانا للوعي والاستقامة، الناشئين عن تقوى الله، التي تفرض عليه أن يعيش حالة المحاسبة والمراقبة لنفسه، فيحاكم كل ما يصدر منها من تصرفات وأفكار وسلوكيات ومواقف، مع حرصه الشديد على تجنب الأخطاء بعد اعترافه بصدورها منه، وعزمه ألا يعود لمثلها، بناءً على ما تقتضيه التوبة والإنابة إلى الله، إذ يعي أن سلامة الرسالة منهاجاً ومبادئ وخطاً تتطلب سلامة النفس التي تحملها، لكيلا يُضحى بالرسالة من أجل الحفاظ على شخص أو حزب أو قبيلة أو منصب، ولا يتم التنازل عن المبدأ في سبيل مصلحة مؤقتة، أو مكسب آني، أو انتصار زائف، ولكيلا تختلط المفاهيم الحقة بالمفاهيم الباطلة، فيحصل التردد، ويسود الارتباك، ويعم الجهل، وتتنامى حالة العشوائية، حتى يقع السقوط العام والشامل للواقع كله.
أما النوع الثاني فهو: المقيم لنفسه مقام الإله، أو شبه الإله، لذلك لا يهتم بجانب الأخلاق، ولا يراعي مسألة القيم، ولا يحتكم للتقوى، ولا يعترف بوجود الأخطاء، ناهيك عن سعيه لتفاديها، أو معالجة تبعاتها، مع توجه نحو الإصرار على الذنب، من خلال تصويره له بصورة الحسنة والفضيلة والخير، بموجب ما تقرره نزعة البغي التي تصيره متمرداً على ما سبق وعرفه من الهدى، إلى الحد الذي يصل به أن يفضل التضحية بالرسالة، كي يحمي ذاته أو تياره، ويتنازل عن المبادئ في سبيل الحفاظ على مصالحه، والظهور بمظهر المتسامح القريب من كل الناس، الأمر الذي يفقده القدرة على القيام بمهامه الواقعة في نطاق مسؤوليته، لكونه صار ملوث النفس والفكر، ضعيف الإرادة، عرضةً للاختراق، كنافذة لإسقاط الأمة عن طريق عدوها، بل تتطور المسألة لديه، إلى أن يصبح منافقاً خالصاً، عندما يكون مستعداً للكذب على الله وخلقه باسمه، جريئاً على نقض عهده ووعده مع خالقه، وذاك ما يبينه قوله تعالى: {فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم بما أخلفوا الله ما وعدوه إلى يوم يلقونه}.
وهكذا؛ يبقى الفرز والإمازة للخبيث من الطيب؛ قانوناً يجري على أهل الحق، كسنة من سنن الله لا تزول ولا تتبدل.

أترك تعليقاً

التعليقات