عصر اللا أساس
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
في البدء، حين كان الإنسان يحدّق في السماء المرصّعة بالنجوم، كان قلبه عامراً بالدهشة، يتساءل عن سرّ هذا الكون الذي يلفّه الغموض. كان العالم أمامه لغزاً مبهماً، تسبح فيه قوى خفية، وتتشابك فيه الظلال بالنور. ومن هذه الدهشة الأولى، ولدت الأسطورة، ثم تحوّلت إلى تأمل، فإلى حكمة، ثم أصبحت فلسفة، ثم عرفانا، ثم علماً.
إنّها رحلة الوعي، التي تبدأ من السؤال الأول ولا تنتهي، لأنها ليست مجرد سلسلة من الأفكار، بل هي صعود الروح نحو المطلق.
كان حكماء ما قبل سقراط كمن يسير في الضباب، يتلمّسون طريقهم وسط عالم من الرموز، يبحثون عن ذلك [الجوهر الأول] السرّ الكامن خلف ستار الوجود.
طاليس قال إن الماء هو أصل كل شيء، وهرقليطس رأى أن الكون نار متحركة، وفيثاغورس همس بأن الأعداد نفسها تختزن سرّ الوجود.
ثم جاء سقراط، فحمل الشعلة من أيدي السابقين، لكنّه لم يحدّق في السماء مثلهم، بل في قلب الإنسان نفسه. سأل: ماذا يعني أن نكون؟ من نحن؟
أجاب أفلاطون بأن الحقيقة ليست في هذا العالم، بل في عالم المُثُل، حيث كل شيء في أرقى صورة له. أما أرسطو، فقد أعاد الإنسان إلى الأرض، وقال إن الحقيقة تكمن هنا، في هذا العالم، في العقل والمنطق والتجربة.
لكن بين هذين الاتجاهين، بقي السؤال معلقاً: هل العالم الحقيقي هو العالم المادي أم عالم الروح؟
ثم جاءت مدرسة الأفلاطونية المحدثة، حيث جلس أفلوطين في صومعته، يتأمل في النور الأزلي، وقال بأن الغاية ليست المعرفة العقلية، بل الاتحاد بـ[المطلق].
في الهند، كان بوذا يخبر أتباعه بأن الخلاص لا يكون إلا بإطفاء الأنا، وفي الصين كان لاوتزه يتحدث عن [التاو] الطريق الخفي الذي ينساب في كل شيء.
هنا بدأ البحث عن الحقيقة يتخذ شكلاً جديداً، لم تعد المعرفة مجرد فكر، بل أصبحت تجربة، ذوقاً، كشفاً.
عندما امتزجت الفلسفة الإغريقية بالروحانية الشرقية، وُلد فكرٌ جديد، أكثر عمقًا، أكثر صفاءً. قال السهروردي إن الحقيقة ليست مفاهيم، بل أنوارٌ متدرجة في الوجود.
أما ابن عربي، فقد نظر إلى الكون كله وقال: كل ما في الوجود هو تجلٍّ إلهي، كل شيء يسبح في بحر الوحدة. كان يرى أن العارف لا يكتفي بأن يفهم الوجود، بل يذوب فيه، يصير هو هو.
وفي فارس، جاء ملا صدرا وقال إن الوجود ليس ثابتا، بل في حركة مستمرة نحو الكمال، وكل كائن يمكنه أن يرتقي في مراتب النور، حتى يصل إلى الحقيقة المطلقة.
لكن هذا الرقي في البحث عن الحقيقة، وبناء الوعي ذهب عندما جاء زمنٌ جديد، زمن العقل والتجربة. رفع ديكارت شعاره {أنا أفكر، إذن أنا موجود} وجاء كانط ليقول إن العقل لا يمكنه إدراك الحقيقة المطلقة، لأن هناك دائمًا حجابًا يحول بيننا وبين الشيء في ذاته.
أما هيغل، فقد رأى أن التاريخ كله حركة روحية صاعدة نحو المطلق، بينما أعلن نيتشه [موت الإله] وقال إن الإنسان يجب أن يخلق قيمه بنفسه، لا أن ينتظر من السماء أن تنزلها إليه.
وهكذا تم السقوط؛ فحين غرق الإنسان في المادية، بدأ يعود إلى السؤال الأول: من نحن؟ وما هذا الوجود؟
جاء كارل يونغ ليقول إن داخلنا لاوعيا جمعيا، حيث تتراكم الرموز الروحية عبر العصور. ثم جاءت فيزياء الكوانتم لتكشف أن المادة نفسها ليست صلبة، بل تذبذب واحتمالات، وكأن الوجود كله رقصةٌ بين العدم والكينونة.
والكارثة هنا؛ حين تحدّث فريدريك نيتشه عن [سادة الأرض] فهو يتحدث عن إنسان يصبح سيداً حين يسهم في إتاحة إقامة نظام على الكرة الأرضية بحيث تمجد الأرض من حيث هي [أم مليئة بالعظمة]، من حيث هي حضن جميع الأشياء، وبحيث يعود الإنسان إلى الأرض، ويتحرر من الأصنام و[المُثُل العليا]، ويقبل الحياة كما هي في معناها [الديونسيوزي]، في مأساويتها، وفي تمزقها، وبمحياها المزدوج.
مع موت المُثُل العليا وموت [العقل الثابت] و[موت اللّه] بدأت القوة الأرضيّة المكبوتة من سالف العصور تبرز من جديد، وهذا [الاستذكار] هو استذكار [للموت]، والذي يأخذ صورة العدميّة التأويليّة عند مارتن هايدغر، فالتأويلات الميتافيزيقيّة منذ ظهورها ما هي إلا تأويلات محتجزة بين نقطتي الميلاد والموت. لذا، لا حقيقة ثابتة على هذه الأرض بل مجرد تأويلات غارقة في العدم؛ ومن هنا بدأ عصر جديد، وهو [عصر السيولة الأرضيّة] وهو عصر الما-بعد: المابعد حداثة، المابعد تاريخ، المابعد إنسانوية، المابعد بنيوية؛ وبالمختصر هو عصر اللا أساس والذي سيتمظهّر روحانيّاً في هيئة [الديانات الوثنيّة].

أترك تعليقاً

التعليقات