كن حراً أولاً
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
إن مَن يطلع على سيرة ومسيرة أهل البيت بتجرد، وينطلق في رحابهم وهو خالٍ من العقد النفسية التي يحدثها الانتماء المذهبي القائم على العصبية العمياء، ولم يسبق له أن انتسب لحركة أو فرقة تحيزت بأهل البيت، ولم تتحيز إليهم (ع)، سوف يكون أكثر معرفة بعظمتهم، وأقدر على تمثل خطهم ونهجهم. ولكي يتضح هذا البعد أكثر نقول: نحن في محرم الحرام، وعلى مقربة من عاشوراء، فكيف يجب أن ننظر إلى الثورة الحسينية؟ ومَن هو الحسيني الأصيل، والحسيني الدعي؟
هناك فرق بين التحيز إلى الحسين، والتحيز بالحسين، ولا شك في أن مدار التحيز إلى الحسين هو التحيز للقيم التي ناضل من أجلها. وحيث إن القيم المذكورة كانت هي أمثل تعبير عن جوهر الإسلام وجوهر الإنسانية، فقد بات مؤكدا أن التحيز إلى الحسين لا يمكن إلا أن يكون تحيزا للقيم الإسلامية والإنسانية باعتبارها تترتب طوليا. ومثل هذا التحيز يأبى على صاحبه التحيز بالحسين في الدائرة الأضيق. من هنا لا تشيع للحسين إن لم يكن قد استدمج تحيزا للإنسانية والإسلام، ليصبح التشيع برسم التحيز الحسيني طليعة الإسلام وقمة الإنسانية. إن التحيز بالحسين في الدائرة المذهبية الضيقة بالمعنى الطائفي للعبارة هو ما كان قد حاربه الحسين الذي قدم نفسه في سياق الرحمة المهداة التي مثلتها رسالة وشخص جده الأكرم. وإنما فكرة التحيز بالحسين كانت من اختراع أعدائه تضييقا للمدى الذي كانت تتطلع إليه رسالته التي رفضت التقيد بعوارض الصراع السياسي بمعناه الأضيق إلى مديات الثورة الحضارية والإنسانية التي مثلتها دعوة التحرر بمعناها الأوسع.
فكل شعارات الحسين وكل مطالبه كانت إنسانية وإسلامية لا تتحيز بقدر ما تنكر التحيز على دعوتها.
لذلك لم يكن من النافل وصف الثورة الحسينية بالإنسانية. فلقد مثلت كبرى النهضات الإنسانية التي احتفظ بها التاريخ مرغما، وإن كان التاريخ والمؤرخ تواطآ معا لطمس معالمها الكبرى. لقد أنكرها التاريخ الخاص لكن حفظها التاريخ العام، تاريخ الإنسانية بما رأى فيها من معاني عظمة القيم وحجمها الذي قلما يحضر في ملحمة محدودة في الزمان والمكان. لقد كبرت عاشوراء واتسعت كربلاء بحجم القيم ومداها الذي وسم كل خطاب وكل حركة شهدها معسكر الحسين. إن أي رسالة لا تكون إنسانية حتى تشتمل على مطلب الحرية والكرامة. ولقد استطاعت الملحمة الحسينية بكل فصولها البطولية تكريس ثقافة التحرر والحرية في النفوس.
ولم يكتف الإمام الحسين بتذكير أصحابه بهذه القيمة، ولا حتى بإثارة الإحساس بالحرية في نفوس أعدائه، بل إن الحركة التحسيسية التي رافقت تفاصيل الملحمة تثبت أن الحسين لما أدرك أن المؤرخ العربي لم يكن يومها في مستوى الكفاية لكتابة تاريخ التحرر، كان بصدد كتابة تاريخه الخاص بصورة استباقية، حتى يصبح تاريخ الحسين هو تاريخ مستقبل لا تاريخ ماض منصرم يقرأ للتسلية. من هنا كان حقا على من اطلع على فصول الملحمة وأدرك فلسفتها، أن يرى بعد الحسين كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء.
لقد أدرك الحسين أن مشكلة أعدائه تكمن في كونهم ليسوا أحرارا، وأن مشكلة الإنسان بشكل عام هي مشكلة غياب الإحساس بالحرية. ومن هنا نفهم مقولته الشهيرة: «إن كنتم لا تخافون الله ولا تؤمنون بالمعاد فكونوا أحرارا في دنياكم إن كنتم عربا كما تزعمون».
لن يكون المرء حسينيا، ما لم يؤمن بالحرية، ويدافع عنها، ويحارب ثقافة التبعية والاستلاب، ومصادرة الحق بالحرية للناس كل الناس، فلقد تحرر معسكر الحسين (ع) من كل القيود المانعة إياه من طلب منتهى الشهادة في سبيل أنبل القيم الإنسانية التي هي الحرية. وهي استجابة لفلسفة كان قد سطرها أبوه قبل ذلك، علي بن أبي طالب (ع): «لا تكن عبدا لغيرك وقد خلقك الله حرا».
إن الإنسان هو المسؤول عن حريته. وإن الملحمة الحسينية بنفحتها العلوية تعلم الإنسان بالحكمة والفعل أن لا أحد يملك انتزاع الإحساس بالحرية من ضمير الإنسان الحر. لقد تأثر الحر بن يزيد الرياحي بالخطاب التحرري للإمام الحسين، فانتصر على عبودية المواقف الخاطئة، كما انتصر على كل القيود التي جاءت به أول مرة لمحاصرة الإمام الحسين في نينوى. لكن بمجرد أن استقر هذا الإحساس التحرري في وجدان الحر بن يزيد حتى ثار على نفسه وعلى معسكره فكان أول مبارز ينقلب ضد المعسكر الأموي. قال له الإمام الحسين بعد مصرعه: «ما كذبت أمك يوم سمتك حرا، أنت الحر في الدنيا والآخرة». إننا نفهم من الحسين أن يكون الحر حرا في الدنيا فكيف يكون حرا في الآخرة؟
لقد دعا القوم قبل ذلك أن يكونوا أحرارا إن لم يكونوا يخافون الله أو يؤمنون بالمعاد. وبهذا أكد على أن الحرية قيمة إنسانية لا يمكن التفريط فيها. فهي واجبة في حق الإنسان مع الإيمان وعدمه. على أن غاية الإيمان نفسها تحرير الإنسان من الأسر والأغلال التي كانت عليه. وبهذا تصبح مساحة الحرية أوسع. لكن ما معنى أن يكون الحر بن يزيد حرا في الآخرة أيضا؟ إننا نفهم من كلام كهذا أن الحرية قيمة لا تعدم في الآخرة، بل هي عنوان فخر حتى فيما بعد الدنيا وسمة يتبوأ فيها الأحرار منزلة بها يعرفهم الأغيار وعليها يغبطونهم. لقد ميز أبوه قبل ذلك بين ثلاث صور للعبودية: قوم عبدوا الله طمعا في جنته، فتلك عبادة التجار، وقوم عبدوا الله خوفا من ناره فتلك عبادة العبيد وقوم وجدوا الله أهلا للعبادة، فعبدوه لا خوفا من ناره ولا طمعا في جنته فتلك عبادة الأحرار.
لقد تأكد بذلك أن لعبادة الأحرار منزلة خاصة. فإذا كان من عبد الله خوفا من ناره، نجاه الرحمن منها، وإن كان من عبد الله طمعا في جنته أسكنه الله ما طلب في جنات عرضها السماوات والأرض، فأي جنة سيسكنها الأحرار، إن كانت عبوديتهم لله قائمة على العرفان الحق؟ إنها بلا شك جنة خاصة، حيث يقول عنها الرحمن جل وعلا: «فادخلي في عبادي وادخلي جنتي». إنها جنة منسوبة إلى الله بخلاف التعبيرات الأخرى التي وسمت الجنان بجنات وجنان على النحو العام والمطلق. فمتى كان الإنسان، وجبت الحرية في حقه، ومتى بعث بعثت معه.
إن الحرية واجبة في حق الإنسان في الدنيا وزينته في الآخرة. وبذلك كان الحر حرا في الدنيا والآخرة.

أترك تعليقاً

التعليقات