بين المزاجيةِ والرسالة
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -

إن المستشعر للنعمة، الواعي بقيمتها، المستوعب لعظمة الهدي الذي قُدم إليه في كل ليلة من ليالي رمضان لسيد الثورة (حفظه الله)، وذاك الذي يمتلك قدرة النقد لذاته وعبر هذه الآلية النقدية التي يكتسبها من خلال استشعاره لمراقبة الله له، يستطيع أن ينفذ إلى أعماق ذاته، ويقف مع نفسه وقفة محاسبة حقيقية تعرفه أين كان، وأين يجب أن يكون، وأين أصاب، وأين أخطأ، لأننا في هذا المشروع نعمل في واقع الارتباط برسالةٍ عالمية جاءت من الله سبحانه وتعالى، لا مكان فيها للمزاجية، ولا مجال في ظل الانطلاق في رحابها للهوى، وتضخيم الذات، والخضوع للرغبات.
عندما يقف الفرد المنصف لنفسه كمنتمٍ إلى هذه المسيرة يفهم أول ما يفهم أن المسيرة ليست بطاقة عبور يحملها الفرد في ظاهرة ليصل إلى مبتغاه القائم أصلاً على إشباع غرائزه، وإخماد نار مطامحه ومطامعه. عندها ينتهي كل شيء، وتعود حليمة إلى عادتها القديمة، فتصبح الدماء التي بذلت، والمُهج التي قدمت، والجهود والقدرات التي غالبت كل المنعطفات والمخاضات التي اعترضت طرق السالكين طوال مراحل التمكين، مجرد هباء منثور، لم يعد له وزن بنظر صاحِبنا. وأصبح مشطوباً من قائمة أولوياته، وساحة تحركه واهتماماته. ولسنا بذلك بِدعاً من الأمم المتعاقبة على كل فصلٍ من فصول التاريخ، تلك الفصول التي شهدت بِعثة نبيٍّ أو ثورةِ مصلحٍ اجتماعي.
فقد شهدنا من خلال كتاب الله الكثير من الهزات العنيفة التي أرادت إخفاء معالم هداية الله، وإطفاء جِذوَة نوره، عبر الدعوة للانحراف عن المسار الصحيح أو السعي لتحريف المفاهيم والأفكار والعقائد المتبناة من قبل الرسالة الإلهية في كل زمان ومكان. وكانت القابلية للعودة إلى غياهب الظلمات من قبل تلك المجتمعات حاضرة وبقوة نتيجةً لوجود حواضن لكل رواسب الضلالة والجهل والطغيان والظلم والبغي، دخلت ضمن بنية المجتمع الجديد المولود من رحم الرسالة، القائم على أحسن تقويم وفق مقومات الفطرةِ السليمة.
وكان موقع هذه الحواضن الضالّة في خانة المجتمع الجديد كموقع إبليس من الملائكة. فما كان دخولهم نتيجة استقراء للمتغيرات، ولم يكن أيضاً مبنياً على أساس قناعة، بل كانَ محكوماً بضرورة السير مع الريح، والركوب للموجة، فإن أحسن الناس أحسنوا، وإن أساؤوا أساؤوا، المهم أن تبقى مناصبهم ومصالحهم لأنهم يتحركون وفق ما انبنت عليه حركة الملأ والمترفين في كل عصرٍ ومِصر.
أولئك الذين لا يرون أنفسهم إلا فوق الجميع، ولا يجدون أدنى حاجةٍ بأن يكونوا مع الناس الذين يشكلون قِوام قاعدة الأمة من خلال تماسكهم وتعاونهم وترابطهم، الذين جعلوا من أنفسهم لبنات عز عاشت عبوديتها لله، وعرفت الغاية من وجودها، وفهمت علاقتها ببعضها البعض وعلاقتها بالطبيعة من حولها والكون.
هذه المعرفة التي جعلت من كل فردٍ فيها لبنة لبناء السد المنيع المحافظ على قضيته، المقدم للصورة الحقيقية عن دينه، ولا اعتبار لدى هؤلاء الذين يشكلون السور المنيع والحصن الحصين لأمتهم ومجتمعهم، لعرق أو لمنطقة أو لذات، بل إن مقتضى المعرفة الحقيقية لله جعلتهم يذوبون في بعضهم ليشكلوا ذاتاً واحدة تحمل هدفاً واحداً، وتسير في خطٍّ محددٍ لها لا تنحرف عنه مهما كانت الصعوبات التي تعترض وجهتها، ومهما تعددت وسائل وسبل المخاطر المتربصة بها لأجل إسقاطها.
من هنا يجدر بنا أن نعود بك عزيزي القارئ إلى حواضن الضلالة من الرهبان والقسيسين والأحبار وعلماء العملة وعبدة المناصب وسدنة الطاغوت، لندرك معاً أن هؤلاء لا يختفون في ظل حدوث أية نهضةٍ تغييرية وثورةٍ إنسانية إلا كاختفاء الجمر تحت الرماد، فسرعان ما يظهرون ليعيدوا الناس إلى الخانةِ الصفرية من جديد، ويُعبّدوهم للطغاة والظالمين من خلال ابتكار أساليب جديدة تتواءم ومتطلبات المرحلة، وهؤلاء كثر وإن تعددت طبيعة اندماجهم وتشكلهم. فالبعض صادر عن قناعة، ففي نظرهِ لا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل، والبعض نتيجة قصورٍ ثقافي وفكري بمحددات المشروع الذي يحمله، هذا القصور هو داءٌ عضال إذ يكسب صاحبة نظرةً مشوشة، تجعله ينطلق من خلال الخلط بين الحق وبين الباطل، ويظل هكذا في توجهاته وسلوكياته التي تنطلق من قاعدة "تشابه البقر علينا"، وهناك أصناف كثيرة تدخل ضمن هذا الكيان المهدد لوجود الأمة، المزعزع لكيانها، المحطم لثوابتها، المتاجر بقيمها ومبادئها.
وعليه فلا يكفي الإيمان بالنظرية والاعتقاد بأحقيتها ما لم ينتج عن هذا الإيمان خفقةٌ في الشعور، ونبضةٌ في القلب، وفكرةٌ في العقل، وإحساسٌ بالجوارح يتحول عبرها ذلك الإيمان وذلك الاعتقاد إلى منظومة عمل متكاملة تنسجم مع تكويننا الذاتي وتلبي تطلعاتنا الفكرية والاجتماعية والثقافية وتسد كل فراغٍ في أية ناحية من نواحي وجودنا، وتدفع عنا أي خطر محدق بنا.
هذه المنظومة المتكاملة التي تحقق العدل وتقيم وزناً للإنسان على أساس إنسانيته ضمن قاعدة "أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق"، شريطة عدم انخراطه في مسار المنحرفين وانطلاقه مع المفسدين الذين يطلقون على أنفسهم الربوبية من دون الله، ويفرضون أفكارهم على كل عباده، والذي ينطلق ضمن المنظومة الإيمانية التي سلمت في أفكارها ومعالمها وأعلامها من التحريف والانحراف، يستطيع أن يقف في وجه كل التيارات الجارفة العابثة لأنه ارتبط بالله سبحانه وتعالى، وعاش العبودية الصادقة له، وعرف الحق وجسده في مضمونه ومحتواه، لذلك فهو الثابت وإن اهتزت الأرض من تحت أقدامه، والصابر وإن مادت الجبال الرواسي من حوله، والذي يعيش وإن أحدقت به الظلمات من كل جانب نور البصيرة المشرقة في رحاب الأمل بالمستقبل المدعمة بالاستقامة الصادرة عن الثقة بالله سبحانه وتعالى، فقد ينكفئ الناس على ذواتهم ويبقى أولئك الذين لم ينل منهم الوهن، ولم يصبهم الضعف، ولم تخالط نفوسهم الاستكانة، منفتحين على الله، مقرين بعبوديتهم له، مصدقين بكتبه وملائكته ورسله، شموس هداية تبدد كل حاجبٍ للإنسان وفطرته وكل حائلٍ بينه وبين العمل لأجل قضيته. وهنا تقف الكلمات مفسحة المجال لخطى الربيين الصاعدين بدماء كل جيل، العاملين على إتمام نور الله ولو كره الكافرون.

أترك تعليقاً

التعليقات