قلب العدالة
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
لا شيء أقدر على القضاء على المشاريع الرسالية مثل التحيز العرقي والمناطقي والمذهبي، إذ يصبح الحق ما كان خادماً لهكذا توجه، ورافداً لتعزيز كل هذه النزعات المقيتة، وما عدا ذلك فهو الباطل مهما كان عظيماً ومقدساً!
إن هذا التحيز الجاهلي قد جعل الواقع مليئا بالكوارث والنكبات، وعطل عقول المجتمع، وحرمه من الاستفادة من الخبرات والقوى والمواهب القادرة على النهوض به، وتغيير واقعه السلبي، إذ بات كل نظام أو حاكم ينظر إلى المجتمع نظرة تمييزية عنوانها التحيز لابن القبيلة والمنطقة والمذهب مهما كان فاشلاً ومقصر وسلبيا، أو ظالما وفاسدا!
صحيح أن النظرة القائمة على التمييز مطلوبة، ولكنه التمييز الإيجابي، فالتمييز تارة يصب في صالح العدالة، وهو تمييز إيجابي يخلق جوا تنافسيا تكامليا، ويدفع باتجاه التطور والنهضة، خاصة التمييز على أساس الكفاءة والمرتبة العلمية، كون الله ميز في المراتب بين الأنبياء، ولم يساو بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وهذا النوع من التمييز هو من فروع تحقيق العدالة.
وتارة يكون التمييز عقبة في طريق تحقيق العدالة، بل سهما يصيب العدالة في مقتل، وهو التمييز السلبي، الذي يضع معايير قبلية ومذهبية أو عائلية في التمييز بين فرد وآخر، ولا وجود لمعايير مثل الكفاءة والحق والأهلية، بحيث يتم التعاطي مع الفرد وفق معايير ذاتية قائمة على أسس عصبوية بعيدة عن الحق وعن منهج الله تعالى، ويحقق هذا النوع من التمييز فوضى في القيم والمعايير ويكون قاعدة لكل فساد.
فحينما يتم التمييز بين الأفراد، سواء كانوا أفرادا في الأسرة، أو المجتمع، أو مؤسسات الدولة، أو في المدرسة، ويكون التمييز سلبيا، فإن ذلك مع التقادم سيخلق عند الذين وقع ضدهم التمييز حالة من الشعور بالغبن، وهو ما يولد شعورا بالظلم يتعاظم إذا لم يتم إنصاف هؤلاء الأشخاص، وبالتالي ستغيب صفة الإنصاف، وتحضر صفة الانتقام وفق مراتبها الخاصة، حيث لكل مرتبة غبن هناك مرتبة انتقام تناسبها، وهو ما يدفع المظلوم لممارسة الظلم ذاته على من ظلمه، لتحقيق الراحة النفسية ورفع شعور الظلم، وحتى لو مارس تمييزا مماثلا بحق مَن ظلمه، بحيث تترسخ مع التقادم معايير وقيم جديدة بعيدة كل البعد عن الحق والإنصاف والعدالة، وتدريجيا تنتقل هذه كعدوى في المجتمع، وتصبح مفاهيم العدل مشوهة، بحيث يجد المظلوم أن العدل هو أن تمارس نفس ما مارسه الظالم عليك، ويغيب معيار الإنصاف الذي يعتبر معيارا يعيد ميزان العدالة لنصابه حتى مع وجود بعض الظالمين، فالإنصاف يزيل الحجب عن النفس، ويعدل الشعور النفسي بالظلم، ويمنع تحوله لشعور بالانتقام، بل يضبطه ليكون شعورا يسعى لتحقيق العدل حتى في حق الظالم.
فمثلا: إذا كان الحاكم قام بممارسة تمييز بين أفراد الشعب، بأن قرب فئة وأعطاها ميزات على حساب فئة أخرى لأسباب مذهبية أو قبلية أو عائلية، وقامت هذه الفئة باستخدام نفوذها في مخالفة القوانين ضد الفئة الأخرى كنوع من الهيمنة والتهميش، فإن الإنصاف يقتضي من الفئة المظلومة، عدم السعي للانتقام، وعدم ممارسة نفس ما قامت به تلك الفئة في حال أتيحت الفرصة للفئة المظلومة الوصول إلى سدة الحكم، فإذا اخترقت الفئة الحاكمة قوانين وظلمت بهذه القوانين الفئة المهمشة، فإن ذلك يستدعي من الفئة المهمشة التي ثارت على الظلم وفق قاعدة الإنصاف، أن تعيد ميزان العدالة لوضعه الطبيعي، وألا تستخدم الأدوات المنحرفة التي استخدمتها تلك الفئة لإعادة حقها، والدفاع عن الحق واسترداده لا يبرر استخدام نفس أدوات الظالم أو لا يبرر ظلم الآخرين بحجة استرجاع الحق، كون الحق لا يسترد بالظلم، أو الانتقام من تلك الفئة، بل عليها أن تعيد ميزان الحق والعدالة لينعم الجميع بها، ولمواجهة الفساد والتقليل من انتشاره.
لذلك يعتبر التمييز السلبي على مستوى من الخطورة بحق تحقيق العدالة، لآثاره النفسية والاجتماعية، وتغييبه معيار وقيمة الإنصاف، وبغيابها تحجب النفس عن الحق والعدالة، وتوجه إلى حالة الانتقام المتبادل الذي يغرق المجتمع بالظلم والتفرقة ويشتت جهوده ويشيع الفساد، ويكرس وجود الظالم، ويعوق مبدأ العبودية الخالصة لله على المستوى العملي، وإن بقي مرتكزا نظريا في النفس، لكنه معطل عمليا فلا يحرز الأثر المرجو منه.
بينما الإنصاف معيار يعيد نصاب الأمور إلى ميزان العدل والحق، ويمنع تفاقم الفساد، وتوسيع الهوة بين الأفراد والمجتمعات، ويعيد نصاب النظم وفق أسس سليمة في المجتمعات وفي المؤسسات والأسر.
إن إحراز العدالة النفسية وحضور قيمة الإنصاف التي هي قلب العدالة، يمنع انتشار الأمراض في النفس وفي المجتمع، فهو يمثل ضابطة للحاكم من جهة، وضابطة للمحكومين، ويعلي من منسوب الرقابة لكل جهة على الجهة الأخرى، وفق معيار الحق والباطل، بحيث يخرج من دائرة المعيارية كل أنواع الشخصنات مثل القداسات النابعة من المواقع والانتماءات، والعصبيات وكل نفوذ وظيفي أو موقعي يعمد إلى تجيير نفوذه لصالحه أو من ينتمي إليه.

أترك تعليقاً

التعليقات