فلنعتبرْ
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
كل الحركات والتيارات التي تنشد التغيير تنطلق في بداية مشوارها الجهادي والثوري بناءً على ما احتواه المنهاج الذي وضعه روادها الأوائل، ورموزها المؤسسون من المبادئ والأفكار والقيم والمثل التي بإمكانها إحداث التغيير في الواقع السيئ الذي يعيشه المجتمع إلى الأفضل والأحسن في كل شيء، كما ينجذب المجتمع إلى تلك الحركات والتيارات، لاسيما إذا كانت دينية، لأنه يرى فيها تجسيداً حياً لما يختزنه من فكر وعقيدة، ويحمله من معانٍ روحية، ظلت مغيبةً حتى جاءت تلك الحركات والتيارات، ونقلتها من واقع المثال المجرد، إلى واقع الصورة المحسوسة، وذلك لأن الجيل الأول الذي يأخذ على عاتقه مهمة الإخراج لتلك الحركات إلى النور؛ يحرص على أن يرى الناس في ممارساته وأساليبه وتصرفاته وأفعاله وعلاقاته ومعاملاته حقيقةَ ما يدعوهم إليه من أفكار، فتتحد النظرية بالتطبيق، وتتعزز القناعة لدى الناس بضرورة التزام خط تلك الحركات حينما تتعزز الأقوال بالأفعال، ولكن مع الأسف الشديد؛ فإن ذلك الحماس المنقطع النظير، والحرص المتعاظم على تمثل المشروع لدى العاملين يبدأ بالخفوت والتناقص مع الزمن، وهكذا كلما ابتعد العاملون زمنياً عن لحظة البداية؛ سارت الأمور بشكل تدريجي باتجاه الاضمحلال والذوبان، نتيجة ظهور المطامع والأنانية، وغلبة الأهواء والمصالح الشخصية لدى العاملين على ما يحملون من أفكار وقيم ومبادئ ومُثُل عليا، فيعملون على إيجاد سياسة تضمن لهم ممارسة الازدواجية المطلوبة لحفظ مصالحهم، وبالطريقة التي تفصل بين كل ما كان ينشده هؤلاء العاملون من قيم ومبادئ، وبين ما يمارسونه على أرض الواقع في مختلف الميادين.
إنه لأمر في غاية الغرابة فعلاً، فكيف لحركات أخذت على عاتقها مهمة النهوض والتغيير والإصلاح، أن تنقلب على أعقابها بهذا الشكل؟! ولكن إذا عرف السبب كما قيل بطل العجب، وهو أن الجيل الأول الذي انطلق بهذه المهام، متسلحاً بأنبل الخصائص، وأكمل الصفات، كالتضحية والشجاعة والإخلاص والصدق والإباء والثبات والتقوى والاستقامة؛ قد ذهب معظمه في سوح البذل والعطاء، وبموجب تلك التضحيات التي قدمها هؤلاء، إلى جانب ما قدموه من خبرات وإمكانات ورؤى تحققت كل المنجزات التي نالتها حركاتهم تلك، وبمجرد تحققها؛ بدأ النشاط المصلحي، واتسعت دوائر التوظيف الشخصي، واختفت حالة الصدق والوفاء والنزاهة، فصادروا جهود ومنجزات المضحين، من قبل المتسلقين والانتهازيين، الذين ما إنْ يتمكنوا من الإمساك بمقاليد وزمام الحركات التغييرية؛ حتى يعمدوا إلى التزام سياسة المداراة المصلحية الزائفة، التي تصنع من خلالها شبكة علاقات وتحالفات ومصالحات من خلال هؤلاء الانتهازيين، مع تيارات وحركات أخرى، ولأنهم كانوا لا يعبرون عن نهج، وإنما عن هوى؛ فإن تلك الشبكات العلائقية ستتعاظم شيئاً فشيئاً حتى تصير قيداً وسجناً ومشنقة لتلك الحركات النهضوية، لأنها قدمت فكرها وعقيدتها ومبادئها قرابين في سبيل تلك العلاقات والتحالفات والمصالحات والتقاربات والتفاهمات، لتصبح في نهاية المطاف فقيرة مجردة من كل شيء.
وليت هؤلاء الانتهازيين والمتسلقين الذين ابتليت بهم تلك الحركات في تاريخنا المعاصر اكتفوا بهذه الممارسات! بل يحدثنا التاريخ؛ أنهم سعوا لتغييب ومحو أفكار رواد حركاتهم التغييرية، لأنهم وجدوا أن تلك المقولات والأفكار والصرخات تحاصرهم، ولن يستطيعوا تحقيقها، وبالتالي فلا بد من تغييبها، وإبداء فقط كل ما يتناسب مع وضعهم المزري، فلنعتبر.

أترك تعليقاً

التعليقات