هكذا تمت فلسفة الإجرام والتوحش
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
لعلّه من الصعب فهم نظريّة المجتمع الأمثل دون تحليل عناصر ‏المجتمعات وخصائصها، فإذا كنَّا نؤمن بانتساب المجتمع الأمثل لمجتمعاتنا ‏الإنسانيّة، إذن يتعيّن علينا تحديد ماهيّة المجتمعات وأركانها الأساسيّة، كي ‏نعرف ما إذا كانت هذه المجتمعات صالحةً للتحوّل ونيل الكمال أم لا؟ ‏وأين هو المجتمع المقصود والأفضل؟
لقد سجّل لنا تاريخ تطوّر نظريّة المدينة الفاضلة بين المفكّرين لاسيّما ‏الغربيين منهم نتائج غريبة ومؤسفة أحياناً، يُستثنی من ذلك أمثال آغوستين ‏ونظريّته «مدينة الرب)‏‎».
وهذا استعراضٌ لآراء كانت كنموذج للعلماء الغربيين‎:‎
تشكّل الإنسانيّة في مدينة «كانت» الملاك الرئيس في التعامل الأخلاقيّ؛ ‏حيث كان يعتقد أنّ تحقّق هذا الملاك وهذه المدينة سيساعد بشكلٍ مباشر ‏على خلق قانون مدنيّ وفقاً للأُسس الأخلاقيّة. وسيكون الإنسان حينئذٍ ‏المنظّر والمطبّق في آنٍ واحد‎.‎
كما كان يعتقد أيضاً بفصل الدّين عن التعامل الأخلاقيّ؛ ذلك أنّ الأخلاق ‏عبارة عن معايير شخصيّة وليست قانوناً عالميّاً‎.‎
لقد أسّس «كانت» مدينته وفقاً للمذهب الإنسانيّ، فالإنسان فيها هو من ‏يضع الشريعة بمساعدة أخلاقه الإنسانيّة الداعية للإيمان. وكان يری أنّ ‏حقيقة الإنسان أكبر من أن يؤسّس قيَمه الأخلاقيّة وفقاً للإيمان بوجود الله ‏والآخرة. وأنّ الأصول الأخلاقيّة -بحدّ ذاتها- كفيلة بإحراز الفضيلة في ‏المجتمع، علی أنّ سعادة الإنسان لا تتحقّق إلاّ بتحقيق الإيمان بالله ‏والآخرة‎.‎
كان هدف «كانت» من ذلك كلّه إقصاء العلوم الطبيعيّة عن مرحلة المفاهيم ‏الأخلاقيّة والدينيّة، فعمد إلی حصر دور العقل بالمجال التجربيّ، كما فسّر ‏المفاهيم الفكرية وفقاً لمدرسة «نيومان» ظناً منه باستبعادها عن حدود ‏العقل. وفقاً لذلك، ثمّة قطيعة بين نظريّة «كانت» الأخلاقيّة والبُعد ‏الميتافيزيقيّ، فلا تؤسّس أخلاقيّات المجتمع إلاّ بمنأیً عن التعاليم الدينيّة‎.‎
وتبقی فلسفة «كانت» محافظة على الإيمان بالمفاهيم الميتافيزيقيّة في حدود ‏المعقول، بل وتعتبرها من عوامل تحقيق السعادة. لكن لا ينبغي لها أن ‏تؤرّق بال النفس الإنسانيّة المهيَّأة لارتكاب المعصية في وقتٍ ما، والتي لا ‏تقنع بهذا القدر من مفهوم وجود الرب؛ لذا كان لا بدّ من تقديم حلّ بديلٍ ‏يُخلّصها من عذاب التفكير بحقيقة الوجود الربانيّ وسائر الحقائق ‏الميتافيزيقيّة الأُخری، ويوفّر لها السكينة والاطمئنان في إيمانها، وهذا ما ‏يتأتّی من الإيمان الطبيعيّ الماديّ. وإذا ما أردنا فرض إلهٍ للبشر فلا بّد أن ‏يكون ذا نزعة إنسانيّة؛ لكي يتسنّی للإنسان المتمدِّن أن يتصرّف بما يحلو ‏لـه في حياته الاجتماعيّة، دون أن يكون هناك أحد يحدِّد له عمله؛ وإنّما من ‏المُفترض أن يكون هناك مَنْ يحكم بصحّة كلّ أنواع ممارسات الإنسان ‏علی مرّ العصور، من قتلٍ ونهبٍ وظلمٍ وانغماسٍ في الشهوات. هكذا تنال ‏النفس الإنسانيّة هدوءاً في قرارة الضمير! بل هكذا تمت فلسفة الإجرام ‏والتوحش‎.‎

أترك تعليقاً

التعليقات