واقع التاريخ الديني
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
يتحدث القرآن الكريم في تحريف كلام الله والكلم في أربع آيات، وفي كتمان الكتاب وما أنزل من البينات والحق في حوالي ست آيات، وفي لبس الحقّ بالباطل في آيتين، وفي قول الكذب على الله تعالى وافترائه عليه في عشرات الآيات، وفي تبديل القرآن وكلام الله في حدود آيتين. إلى غيرها من الآيات القرآنية والنّصوص الحديثية -وهي بالمئات- والتي تبين حقيقة دينيّة وتاريخيّة واجتماعيّة؛ وهي أن الدين لا تقف تحدياته عند مرحلة التنزيل، وإنّما تتعدّاها إلى مرحلة التّأويل. بل يمكن القول إن صراع التّأويل هو أشد صعوبة، وأعظم خطرًا من صراع التنزيل.
ولكي تكتمل الفكرة، لا بد من معرفة أن الدين عندما ينزله الله تعالى، فإنه يدعو بشكل أساس إلى منظومة من المفاهيم والقيم الأخلاقيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة... وعلى رأسها العدل والقسط، وهذه الدعوة تشكل تهديدًا لمصالح قوى وجماعات كالمترفين، والمفسدين، والمنافقين (لاحقًا)، وقوى السلطة والمال، والقوى التقليدية المناهضة لأي تغيير، يمسّ مصالحها ونفوذها. فتعمل هذه القوى والجماعات على مواجهة الدين في مرحلة التنزيل -أي مرحلة تثبيت نصوصه الأولى والأصليّة- حيث تكون هذه المواجهة مواجهة مباشرة، تأخذ طابعًا صداميًا عنفيًا عسكريًا، وتهدف إلى منع الدين من تثبيت أركانه وإحكام أسسه؛ لكن ما إن تكون الغلبة للدين وفئته على تلك القوى والجماعات، ويستطيع الدين أن يحكم بنيانه، ويثبت أركانه في معركة التنزيل تلك؛ حتى يبدأ فصلٌ جديدٌ من فصول تلك المواجهة. ومن هنا، إذا ما طرح هذا السؤال، وهو: عندما ينتصر الدين ويحكم أسسه وبنيانه، هل تنتهي المعركة وفصول المواجهة بشكل كامل مع تلك القوى والجماعات المذكورة ومصالحها، أم أن فصلًا جديدًا من فصول تلك المواجهة يبدأ؟
الجواب أن تلك المواجهة لا تنتهي عند حدّ غلبة الدّين في مرحلة التّنزيل، وإنّما يبدأ فصل جديد من فصول تلك المواجهة بين الدين وأهله من جهة، وتلك القوى والجماعات من جهة أخرى. سوى أن طابع تلك المواجهة، وأساليبها، وأدواتها، وأهدافها المباشرة؛ كل ذلك يكون مختلفًا عما كان سائدًا في مرحلة التنزيل، وأساليبها، وأدواتها، وأهدافها المباشرة. حيث يمكن أن نطلق على هذه المعركة تسمية معركة التأويل، أي معركة تفسير الدين، وإنتاج دلالاته.
إن الخطورة في هذه المواجهة، لا تكمن فقط في أن تلك القوى والجماعات تواجه في الميدان نفسه (الاجتماع الدّيني)، أو أنّها تنافس بالأدوات نفسها (الدين ومشروعيّته)، ولا بالوسائل والأساليب نفسها (الفكر والثّقافة...)، ولا لمجرد أن تأويلها هذا ومضمونه، قد ينطلي على كثيرين، لأنّها تقدمه باسم الدّين، ولا لأنّها تملك القدرة على المواجهة من خلال توظيفها لأدوات المال والسّلطة...؛ وإنما تكمن الخطورة في أنّ تلك القوى والجماعات تعمل على هذا الهدف، وهو إنتاج تأويل للدين وتفسير له، سوف يعتمد بعد برهة من الزمن باعتبار كونه الدين نفسه، وأنّه ما أراده الله تعالى، وأنّه ما يجب العمل به لطاعة الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله)، والسير على نهجه وهداه. حيث يصبح والحال هذا المرجعية الدينية في التشريع، والفكر، وبناء ثقافة الناس، ومجتمعاتهم. ليصبح هذا الفعل سببًا في تشويه الدين، والوعي، والسلوك، والثقافة، والممارسة، بل في تدمير مختلف مناحي الحياة الاجتماعية للناس ومصالحهم. هنا، لا يقتصر عبث تلك الجماعات على مصالح الناس وحقوقها، وإنما يشمل أيضًا الدين وتفسيره. ولا ينحصر فسادها في ميادين المال والاقتصاد الاجتماع، بل يتعداها إلى الفكر والثقافة والوعي والمعرفة الدينية. حيث تصبح الضحية هنا ضحيتين، الأولى المجتمع، وحقوقه، ومصالحه، والثانية الدين، وتأويله، وتفسيره. وكما تستخدم الأولى للسطو على الثانية، تستخدم الثانية للإيغال في الأولى.
هنا تتيه الحقائق، وتنقلب المفاهيم، وتغلب الشبهات. فيصبح الدّين نقمة، ولا يبقى فيه رحمة، وتصبح طاعة الله عدوانًا، والعمل بهداه إجرامًا، وتضحى العقيدة أنّ الله تعالى خلق الخلق ليقتلهم، وليُعمل الذبح فيهم. وكل ذلك يقدّم باسم الدين وشريعته. هنا يصبح الفساد صلاحًا، والظلم عدلًا، والتعصّب فضيلة، والعنصرية كرامة، والتخلّف هداية، عندما يضحى التأويل إما من السلطان، أو إليه. أي إما أن يؤخذ من السلطة، أو يكون هدفه تعظيمها وتبرير فعلها.
هنا إذا ما نجحت تلك القوى في تثبيت تأويلها للدّين على أنّه التّأويل الحقّ، فإن هذا الانحراف سوف يكتسي قدسيته، وينال مشروعيته. ولن يقف عند حدود تلك القوى وفئاتها، بل سوف يعم الاجتماع الدّيني بمجمله. ولن يقتصر على زمن إنتاج ذلك التأويل وعصره، بل سوف يعمّ الزّمن الديني كله. حيث سوف يأتي أقوام، وتذهب أمم، لتعمل بذلك التأويل، فترتكب الظلم، والبغي، والفساد، وتخالف الدين وقيمه، وتوغل عدوانًا وإجرامًا وتشويهًا للدّين، وينبري المؤمنون للتضحية بكل ما لديهم، لنصرة الانحراف عن الدين، وكلّ ذلك باسم الدين ورسالته.

أترك تعليقاً

التعليقات