كي نسلم من الكارثة
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
علمتنا الثقافة القرآنية ببعديها المعرفي والعقيدي، وحركتها العملية في الواقع بهدف تغييره، وبناء الإنسان وإصلاحه، ومجاهدة الشر والفساد والظلم والاستكبار، وبسط ميزان العدل، وحفظ حقوق الناس وممتلكاتهم وكراماتهم؛ أن القيادات الرسالية المؤمنة المخلصة الواعية المستبصرة الشجاعة هي أولى الدعائم والأسس التي يقوم عليها البناء والتغيير والإصلاح، وأهم الروافد لتحقيق النهوض الحضاري الشامل، وذلك لأنها لا تتحرك بمعزل عن التعاليم الإلهية، الأمر الذي رفعها عند الله والناس، وأكسبها الخلود والبقاء والعطاء والاستمرارية حتى وإن ذهبت مادياً، لكونها أعطت بصدق، وتحركت بوعي وقناعة وثبات والتزام، وجاهدت بيقين راسخ بحسن العاقبة، وثقة مطلقة بالله سبحانه وتعالى، ومثلت النهج الذي تحمل مهمة الدعوة إليه، والعمل بمقتضاه كاملاً غير منقوص. لذلك فأنت حين تراها وتستمع إليها، وتلمس جهدها وجهادها، وتتأمل في أفعالها ومواقفها؛ تجد نفسك وجهاً لوجه مع القرآن في كل مضامينه وتعاليمه وإيحاءاته.
كما علمتنا هذه الثقافة المباركة أن المنهاج والقائد اللذين هما كلٌ لا يتجزأ بنص الأحاديث النبوية على صاحبها وآله أفضل الصلاة، وأزكى التسليم؛ بحاجة إلى ثلة واعية بهما، مستوعبة لمكانتهما من حيث القيمة والأهمية لدورهما الكبير والشامل لكل جوانب الحياة والإنسان، وعلاقتهما بتحقيق الفوز والفلاح للأمة في الدارين، قادرةٍ على إيصال رسالتهما إلى الناس كل الناس، لها من الإيمان والخلق والنباهة والاستقامة والتقوى ما يؤهلها لتكون سفيرة الحق الذي تنتمي إليه، وصورة الفكر الذي تحمل مهمة تبليغه إلى سواها، وهي شديدة الاتصال بالنهج والقائد، إلى الحد الذي يمكنها من ترجمة كل كلمةٍ له إلى حركة وموقف وفعل، فلا يرى الناس بيانا للقائد، أو يسمعون كلمة له أو خطابا إلا ووجدوا آثار وبركات ونتائج ذلك متجسدة في ساحات الفكر والثقافة والإعلام وميادين العمل وتحمل المسؤولية، وذاك وحده ما سيصنع الجمهور الواعي والقوي والمتماسك والفاعل، الذي سيلتف حول القائد، ويحافظ على النهج والمشروع، ويصون الثورة كما يصون حدقات عيونه.
ونحن إذ نعيش في ظل منهاج وقيادة، لزم التنبيه على ما يحاك لضربهما باسمهما، إذ يكرس اليوم معظم المؤثرين من المحسوبين على الوسط الثوري كل جهدهم، لإيجاد الشخصية الثورية المنطبعة بطابع الانفعال العاطفي، والمتبنية لأسلوب الجدل العقيم في كل ما تقول وتفعل، فضاع الفكر، واختفت الأخلاق، نتيجة هذا التوجه، ليصبح المشهد في الواقع مليئا بالصور المعبرة عن الخواء الفكري، في كل ما يُطرح من قضايا، ويُناقش من شؤون ومشكلات، إذ لم يعد الهم لدينا تجاه أي مشكلة اجتماعية، أو خلل في واقعنا العملي، أو فساد إداري هنا أو هناك، قائماً على الجدية في دراسة الظاهرة وكشف الأسباب، وتقديم الحلول والمعالجات، وإنما بات جل همنا مقتصراً على البحث في الكيفيات والأساليب التي ستمكننا من التغطية لكل تلك الإشكالات والاختلالات ومظاهر الفساد، وبالتالي تبرئة ساحة المتخاذلين والمقصرين والفاسدين من كل ذنبٍ اقترفته أيديهم، وتبييض صحائف أعمالهم من كل جناية ارتكبوها عن قصد أو دون قصد بحق الثورة والمجتمع والنهج والقضية، والحجة في كل ذلك هي: التفرغ لما هو أهم, وفي هذا ما فيه من الدلالة على وجود تحريف وانحراف في واقعنا.
نعم نحن نستند إلى كتاب الله، لكن علينا ألا نغفل عن الأحبار الذين يحرفون معناه، ولولا أن الله قد تكفل بحفظه لكان حالنا اليوم كحال بني إسرائيل مع كتبهم، التي لم تسلم من التحريف والتزييف والدس والإلغاء والبتر والحذف والزيادة والنقصان، مع العلم أن الدافع للقيام بهكذا تعدٍ على آيات الله جل ذكره، لم يكن منطلقاً من بني إسرائيل باعتبار ما امتازوا به من جراءة على مخالفة أمر الله، والإصرار على التمادي في معصيته، ومعاندة الحق الذي جاء به رسله وأنبياؤه، صحيحٌ كان هذا الأمر واضحاً فيهم إلى درجة العموم لكل مجتمعاتهم، ولكنه يظل التوجه لكل المجتمعات والأمم التي فترت همتها عن مواصلة الالتزام بهدى الله، نتيجة طول المدة التي تفصلها عن مرحلة الدعوة التي آمنت بها، وانطلقت لتجاهد تحت رايتها، وبقيادة النبي المبعوث من الله لهدايتها، ولما انتهت الأخطار المحيطة بها، ومكنها الله من كل شيء، فرحت بما صار إليه حالها، واستراحت لما قد تحقق لها، ظناً منها أن ما نالته هو حقٌ من الاستحقاقات التي هي أمر مفروض على الله لها دون سواها، ثم شيئاً فشيئاً ينشأ الجمود ويتعاظم، وتكثر المخالفات والاختلالات والتجاوزات، التي يكون منشأها الأول النخبة والرموز ورؤوس المجتمع وعلية القوم، الذين يحظون بتقدير واحترام الجميع لهم، ولاسيما إذا كانوا ممَن كان له سابقة طيبة، وأثر مشهور أيام البلاء والاستضعاف، فيضطر الأحبار والرهبان إلى العمل على شرعنة كل ذلك، ليصبح بعدها جزءا لا يتجزأ من الدين الإلهي، ولا فرق في ذلك بين مجتمع ومجتمع آخر، سواءً من كان وجودهم سابقاً لوجود اليهود والنصارى، أم تالياً له.

أترك تعليقاً

التعليقات