الخاذلون للحق
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
قد يبدأ بعض المهتمين بقضايا الفكر والثقافة دراسةً وبحثاً رحلتهم العملية مع الحق، وهو لايزال حلماً يمني النفوس المكتوية بنيران الظلم، المحكومة بسياسة الباطل، الخاضعة كلياً أو ضمنياً لأفكاره وتوجهاته: بغدٍ أفضل، يُزال فيه الظلم، ويسود العدل، وينتهي الشر، ويختفي الفساد والفاسدون، ويُقضى فيه على كل ما يقتل روحية الإنسان، ويطمس فطرته، ويمس بكرامته، ويشوه فكره ومعتقداته، ويلغي إرادته واختياره، فيندفعون بكل عزم وجد وإخلاص في رحاب ذاك الحلم، مبشرين بمقدمه الميمون، وممهدين لولادة فجره البهي، ينشدون القصائد، ويبدعون الخطب، معيدين للمجتمع المقهور روح الإحساس بالوجود الفاعل، بعد أن فقده منذ زمن، فصار كالموتى لا يقدر على شيء، ويزرعون في وجدانه بذرة الأمل، بعد أن عشش اليأس في جميع نواحي ذاته، وخيم على كل جانب من جوانب حياته، وما إن تحين لحظة ظهور الحق جنيناً، حتى تتفتح القلوب لنسائمه الخفيفة المنعشة، وتنطلق العيون في كل اتجاهٍ يتسلل من خلاله إشعاع وجوده الموحي ببداية تلاشي زمن الظلمات واندحاره إلى الأبد، وشيئاً فشيئاً يكبر الحق، وتتسع رقعة وجوده، وتتعاظم آثاره، وتنتشر سمعته، وكلما ازداد نمواً وقوةً ازداد مؤيدوه ومعارضوه في الوقت ذاته، الأمر الذي يجعل بعضاً من ذلك البعض يتراجع عن موقفه، ويتنازل عن قضاياه المتصلة بالحق الذي آمن به في البداية، والتزمه في حركته العملية ونشاطه الفكري، ومرد هذا التراجع والنكوص عائدٌ إلى خوف أصحابه من تحمل تبعات البقاء في صف الحق، الذي اعتقدوا أن طريقه مفروشة بالورود، ليس فيها ما يوحي بوجوب دفع الكلفة من وقت وجهد ومال، ولا ما يلزم بضرورة الاستعداد للتضحية بالنفس والأهل والسمعة والمكانة والجاه والمنصب، فلما علموا بعكس ما ظنوه اتجهوا مباشرةً إلى الانضمام لجبهة أعدائه، وسخروا ألسنتهم وأقلامهم لحربه.
ولا يتوقف السقوط عند هذا الصنف فقط، بل يتعداه إلى غيره، فهناك مَن اعتبر انضمامه إلى جبهة الحق وسيلةً لتحقيق ما يطمح إليه من مكاسب مادية ومعنوية، وما إن يصطدم بأي شيء يخالف مراده، حتى يتحول إلى النقيض والضد مما كان عليه مائة بالمائة.
وهناك مَن يتعامل مع الحياة برومانسية مفرطة، فيعيش القناعة التي تقول: إن الحق يستطيع أن يصوغ جميع أتباعه على صورته، فمتى ما تمكنوا في الأرض أقاموه كما هو، لا يخرمون منه حرفاً، ولا يخلون بأي مجال من مجالات تطبيقه في الواقع، ولا يغفلون عن أي جانب من جوانبه، ولا يخالفون أي بند من بنوده، ولا ينقلبون عن أيٍ من تعاليمه، متناسياً طبيعة الاختلاف بين الناس من حيث الفهم للأشياء، ومستوى التفاوت في قوة الإيمان وضعفه، وتنوع الأهواء والأمزجة والرغبات التي تحكم حركتهم، وطبيعة المؤثرات التي تنتج عن اختلاف المواطن، وتقلب الأيام، وتبدل الحالات، ففلان الذي كان مستضعفاً صار قوياً متمكناً، وفلان الذي كان فقيراً أصبح غنياً، وفلان الذي كان مغموراً صار نافذاً مشهوراً، له مكانته وأنصاره ووزنه المؤثر، فيأمر وينهى، ويعزل ويعين، ويفعل ما يشاء، وعليه فإن انقلاب هذا أو ذاك على أعقابه، ووجود الثغرات والفجوات والاختلالات، وتفشي الأمراض والظواهر التي جاء الحق لإزالتها، سواءً كان تفشيها وانتشارها جزئيا أو كليا في ساحة أهل الحق لا يعطي هؤلاء المثقفين مبرراً في الانسحاب من جبهة الحق، ولا يمنحهم الذريعة التي تدفعهم لاعتزال العمل، وبث اليأس في نفوس المجتمع من إمكانية إصلاح الواقع، وتغيير وضعية المجتمع السيئة إلى الوضعية الحسنة، حتى وإن حاولوا فلسفة تراجعهم وتخليهم عن دورهم بأبلغ العبر وأوضح الأفكار، كأنْ يقول أحدهم: لن أقف مرة أخرى مع الحق، مخافةَ أن يقوى أصحابه، فيحولوه إلى باطل، فتلك حجة واهية، ودليل لا يصمد أمام النقد، وكذبة لا تستطيع أن تغطي الحقيقة، إذ لو كنت مقتنعاً بالحق لعرفت: أن قناعتك تلك توجب عليك البقاء في ساحة الدفاع عنها من كل أعدائها الداخليين والخارجيين، فتظل ناصراً للحق، مستعداً للفناء في سبيله، كاشفاً لما ليس منه، فاضحاً للمنقلبين عليه، حاملاً لواء التبيين لسبله، متحملاً مسؤولية بقائه قوياً نظيفاً طاهراً معطاءً، خالياً من كل العيوب والعاهات، صحيحٌ أن اعتزالك لا يسهم في قوة الباطل، ولكنه يخذل الحق، وقد قال الإمام علي عليه السلام في شخص على شاكلتك: «لم ينصر الباطل، ولكنه خذل الحق».

أترك تعليقاً

التعليقات