الفريضة الغائبة
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
كل ذي فطرةٍ سليمة، وصاحب وعي وإرادة وقدرة على الاختيار؛ يتوق إلى اللحظة التي يكون فيها الإسلام حاكماً للواقع كله، وتصير الهوية منطبعة بطابع الإيمان للدولة والمجتمع، ويصبح القرآن هو المرجع الذي يحتكم إليه الناس جميعاً حاكمين ومحكومين.
ولكن للأسف فما نؤمله ونرجوه بهذا الخصوص لايزال بعيد المنال، لاسيما وأن الخطاب السائد والغالب لدى معظم الحركات والتيارات الإسلامية الموجودة على الساحة، هو خطاب يحمل شحنة خوارجية تكتفي بالشعار «إن الحكم إلا لله». في حين تراها تفتقر إلى آلية التصريف العملي لهذا الشعار. هذا الخيار يكرس تلك المسافة التناقضية بين حكم بشري وضعي خالص لا علاقة  لله في جعله أو إقراره، وبين المصادر التأسيسية لمفهوم الحكومة الإسلامية التي يفهم منها أنها جعلت الشرع سيد العقلاء، بحيث في الأمور الواضحات المتعلقة بالمصلحة الواقعية للبشر، جُعل الحق للعقل بأن يشرع فيها التماساً للمصالح ودرءاً للمفاسد، ورفعاً للضرورات والإكراهات.
فالعقل بما هو مدرك -على نحو ذاتي وليس جعلي- للحسن والقبح.. ‏للمصالح والمفاسد.. للطيبات والخبائث، جدير بأن يشرع، بحيث يعدو حكمه وهديه ذاتياً وحجته ذاتية غير جعلية منزلة.
ومن هنا ندرك أن القطيعة المفتعلة التي أقيمت بين الشريعة والعقل كانت سببا في زيادة وتعميق الفجوة بينهما، وتلك هي إحدى كوارث ما راج من معالجات فقهية وكلامية وفلسفية. لذلك غاب عن معظم الحركات اليوم أن الشريعة والعقل هما في المحصلة النهائية مظهران لحقيقة واحدة. فالعقل الفطري هو شرع، والشرع هو عقل. فهذا تكويني وذاك تشريعي.
ولا شك أيضاً أن الجهد المطلوب في التشريع -اجتهاداً- مطلوب أيضاً في التعقيل.. ‏والنص حجة والعقل حجة..‏ والعقل مشرع والشرع سيد العقلاء..‏ وإذا ثبت كفر من «لم يحكم بما أنزل الله» -‏شرعاً- فقد كفر من لم يحكم بما أنزل الله -عقلاً- رسولاً باطناً.
إذن، من لم يحكم بما أنزل الله يكفر، ‏ويفسق، ويظلم،‏ وكذلك من لم يحكم بما خلق الله ونزله رسولاً باطناً، فقد كفر وفسق وظلم.. وحال الأطاريح الخوارجية في شدّة انطوائيتها وتسطيحيتها وعنفها المهدور، كفر وفسق وظلم فلئن كفر الآخرون بأحد مظاهر الشرع فإننا كفرنا بالمظاهر الأخرى له، حيث لا مناص من العقل. فالانطواء والعزلة، ‏بما أنها سبب ‏لتخلف الثقافات وعقم الحضارات فهي كفر وحجب وجمود وتخلف.
من هنا كانت البداوة وشدة العزلة والانزواء والتوحش بذاك المعنى، كفرا من وجهة نظر الشرع كما كانت كذلك من وجهة نظر العقل. إن العقل في مجال التطوير والإنماء وتحسين الأداء والنهوض بالعمران،‏ هو تلك الفريضة الغائبة والشريعة المعطلة في تلكم الأطاريح التسطيحية. وما نلمحه اليوم من مظاهر العقلانية في الاجتماع الغربي، وعلى مستوى النظم التربوية والإدارية والسياسية.. هي ذلك الشيء المتاح/ المفقود في أطاريحنا، وهو بشكل ما غائب ومحارب في البرامج التحريفية البائسة المعطلة. ولئن أسرف الغرب في واقعيته، وسعيه إلى تحقيق الحد الأقصى من متعته المادية، فذلك بفعل اختيار ثقافي،‏ ورهان حضاري مختلف. فالعقل المجتهد، ‏المطهر من الرواسب والعوائق السيكولوجية, والأيديولوجية، ‏قادر على إدراك القبح والحسن، فإذا أدركهما شرّع فكان حكمه جازماً ‏قاطعاً معتبراً.
لقد تفنن الغرب في أشكال المتعة وأنواع اللذة لأنها قناعته. ولكنه أيضاً ‏تفنن في الديمقراطية بما أنها أصبحت مطلبه وقدره. إذن، سوف لا نجتهد مثله في مذهبه الأبيقوري ولن نسعى إلى مزيد من التضخم في التماس اللذة، ولكن يتعين أن نفيد من تلك المكتسبات على صعيد إدارة المشهد السياسي في إطار مبدأ الشورى، فنجعل لها إطاراً وآلية لتنفيذها عقلياً، ثم لا مشاحة في الاصطلاح، طالما أن الشورى هي إشراك الشعب في الرأي وتلك إشراك الشعب في القرار.

أترك تعليقاً

التعليقات