الحركات الرسالية والخطر الأزلي
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
تبدأ الحركات التغييرية الثورية الرسالية انطلاقتها العملية في تغيير الواقع وإعادة بنائه وفق ما تضمنه كتاب الله العزيز من تعاليم وأسس ومبادئ وقيم أخلاقية ومقررات وقواعد وأحكام شاملة لكل ما يتعلق بعلاقة الإنسان بربه، وعلاقته بأخيه الإنسان، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بالكون بكل ما فيه من مخلوقات وظواهر ومكونات وثروات طبيعية؛ بروحيةٍ كلها وعي وحيوية ونشاط وعزيمة وقوة إرادة، روحية زادها الإيمان، وميزانها العدل والتقوى، وعنوانها الثبات والاستقامة، والاستعداد للفناء في سبيل الله الذي هو سبيل الناس في كل وقت وحين، مسخرةً كل جهدها وجميع مفردات ومتعلقات وجودها، وسائر أيامها وأحوالها في صحوها ومنامها، وسكونها وحركتها، وصمتها وكلامها لتحقيق الأهداف القريبة والبعيدة التي أخذت على عاتقها مهمة تحقيقها على الأرض قبيل أن تخطو خطوةً واحدة إلى الأمام، وهي قبل الحركة العملية وبعدها؛ قادرة على تحمل كل عذابات وآلام البشرية على طول تاريخها، دون أن يؤثر ذلك عليها بقليلٍ أو كثير، حتى ولو طُلِبَ منها التراجع عن كلمة واحدة أو شعار أو موقف ما لا ولم ولن تقبل، ولنا في آل ياسر، وبلال وأبي ذر خير مثال، وهكذا في من جاء بعدهم من النماذج التي اقتفت آثارهم، والتزمت نهجهم وخطهم ومبادئهم في كل زمان أو مكان.
لذلك تتعاظم على يد حملة هكذا روحية المنجزات، وتتعاقب الانتصارات، وتبقى الحركةُ ماضيةً نحو بلوغ الغاية والأهداف في مسارٍ تصاعديٍ قوي وبناء وعام ومتماسك على كل المستويات، وفي مختلف ميادين ومجالات الحياة والإنسان، وذلك لسبب بسيط هو أن الأتباع الذين يأخذون على عاتقهم مهمة تبليغ المشروع الرسالي إلى الناس، وإخراجه إلى النور؛ قد تلقوا هذا المشروع بصدق، والتزموه بوعي وقناعة، وعملوا له من منطلق الشعور بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم تجاهه عند الله وعند خلقه، وهم كذلك من أكثر الناس فقراً، وأشدهم بعداً عن التعلق بالماديات، وانصرافاً عن الهوى والشهوات والمطامع، وخلوصاً من حب الذات وعبادة الأنا.
حتى وإنْ وُجِدَ من بين هؤلاء ثلة أو رهط أو مجموعة أو جماعة انطلقوا أول ما انطلقوا حباً في الزعامة، أو طمعاً باكتساب الجاه والمنصب والشهرة والمكانة الاجتماعية المرموقة، أو خوفاً من غلبة الفكر والتحول والتغيير الذي يسعى إليه الرساليون إلى واقع ملموس، من شأنه أن يعطل دورهم، ويلغي طبقاتهم، ويسلبهم المكانة والامتيازات التي حصلوا عليها بفعل سيادة الجهل، وشيوع الظلم، وتعميم الذل والتبعية والاستلاب، وحاكمية الطاغوت، ولكن يبقى هؤلاء منخرطين مع الخلص، حريصين كل الحرص على إخفاء نواياهم وأغراضهم وأهدافهم الحقيقية، التي تقف وراء إيمانهم بالمشروع التغييري الرسالي، وقد يبذلون أموالهم نصفها أو كلها، ويعملون على أن يحوزوا الصدارة في كل مقام يتطلب كلاما شديد اللهجة أو اتخاذ موقف حاسم، يمكنه أنْ يبديهم بنظر الجميع قيادة وأتباعاً أكثرَ الناس تعلقاً بالمشروع، وأعظمهم حرصاً وغيرةً عليه، والتزاماً به، ليس هذا فحسب، بل قد يتظاهرون بالزهد والتواضع ولين الجانب مدة من الزمن، حتى إذا ما تمكنوا كشفوا عن وجوههم الحقيقية.
ولكن هؤلاء لا يظهرون إلى الساحة بمشروعهم الالتفافي على مشروع الرسالة الحقة إلا بعد أن يروا أن الدولة التي سعى لها الرساليون قد توطدت أركانها، وفرضت سيادتها، وقضت على كل التهديدات الداخلية التي كانت تهدد وجودها، وبات لها وزن وكلمة وأثر ودور واعتبار ومكانة على مستوى الإقليم، وأصبحت تسير باتجاه رسم ملامح عالم جديد، له مقوماته وعوامله ومنطلقاته التي تستوحيها الدولة الرسالية من وحي الله، ويفرضها عليها الانتماء إلى الدين الحق، فتدخل في مواجهة مع قوى الاستكبار العالمي، وتتجه بكل ما لديها من قوى وإمكانات هذا الاتجاه، الأمر الذي يمنح هؤلاء الوصوليين الفرصة للانقلاب على كل شيء، وإعادة الناس والواقع إلى زمن ما قبل ظهور الرسالة مشروعاً وحركةً.
ولعل أهم عامل يركز عليه الوصوليون والانتهازيون عبر العصور هو امتلاك القدرة على تحقيق النفوذ في المجتمع، سواءً عن طريق التجارة والاقتصاد، أو عن طريق الفكر والثقافة، وذلك باستقطاب علماء ومتحدثين وخطباء وكتاب وشعراء وإعلاميين، وحتى سفهاء ومهرجين إلى صفهم، على أن يُلبِسوا كل أنشطتهم ومشاريعهم وخطاباتهم لبوساً ثورية، توحي للناس في بداية الطريق أن هؤلاء جزء أصيل في بنيان الثورة والجهاد، وكيان وروحية الرسالة ومشروعها العظيم.
من هنا جاز لنا اعتبار هؤلاء الخطر الأزلي الذي يحيط بكل الحركات الرسالية في كل عصر ومصر.

أترك تعليقاً

التعليقات