ضحايا التحيوُن البشري
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
حريٌ بالعاقل اليوم أن ينظر إلى الحياة في هذه الدنيا كمزرعة الحيوانات تماما، فلئن فعل ارتاح وهدأ لأنّه سيدرك أنه يسلك في غاب، وليس من تكليفه أن يقتل كل حشرة وكل حيوان مهما بدا مفترسا، ولكنه يتجنب ويكون على حذر ما استطاع، فلا تستطيع أن تجعل من الثعبان سنّورا ولا من الخنزير حمامة، ومهما بدت ضعيفة وشريرة فعليك أن تتجنبها لأنها طبائع الحيوانات، فالثعبان ضعيف يحمل سمه في رأسه ويزحف على بطنه، فهل ستجعل كل الثعابين بلا سم؟
وتبدو مشكلة الصلحاء أنهم تأخذهم الرغبة في أن يجعلوا العالم على قدر من المثال الأعظم، وسيكون من التّفاهة أيضا أن نحاول أن نجعل من البيئة التافهة بيئة مثالية أو نحاسبها بالمثال، فدع كل حيوان لطبيعته.
إن قليلاً من التأمل يمكنه أن يهديك إلى ألا تنظر إلى حظيرة البشر إلاّ من منظار الحيوان وأصناف الحيوانات، وعلى أساس هذه النمذجة الحيوانية ندرك أننا نمشي في غابة ووجب الحذر وعدم خلط الأصناف. فانظر إلى قول السيد المسيح عليه السلام: «يا عبيد السوء لا تكونوا شبيها بالحداء الخاطفة، ولا بالثعالب الخادعة، ولا بالذئاب الغادرة، ولا بالأسد العاتية، كما تفعل بالفرائس كذلك تفعلون بالناس، فريقا تخطفون، وفريقا تخدعون، وفريقا تغدرون بهم».
فتأمّل معي أنّ البشر في سلوكهم يختارون أصنافهم أو بتعبير أدق يعبرون عن أصنافهم، فلئن كان لك وازع يعصمك من أن تكون ثعلبا أو ذئبا أو حدأة فإن غيرك قد يكون وما أكثرهم والأوادم فيهم قليل.
ثم إنّ الإيمان هو رقيّ بالطبيعة لا انحدار في مزارع الحيوانات، فالكثير ممن يتدينون لا يخرجون عن حيوانيتهم وذلك مؤشر على أن العلاقة بين الإنسان والفهم الديني هي علاقة مأزومة، فمن حافظ على صنفه الحيواني فسوف يجعل من الدين نفسه خطابا حيوانيا به يصرف ميوله الحيوانية. وسيضعنا الإمام زين العابدين أمام تصنيف أوسع وأكثر تفصيلا وعلينا أن نتأمّل أهل الدين حين يتحدثون عن الدين لندرك أن الأديان نفسها اختطفت على حين غفلة، فالدين الذي لا يصنع الفرسان ويعزز قيم الفرسان فهو دين ملبوس لبس الفرو مقلوبا كما قال علي بن أبي طالب، لكن لنستمع إلى حفيده راهب أهل البيت الذي ملأ الدنيا روحاً وعلماً وكان خطابه لزمانه يشبه ما يجب أن يكون خطابا في زماننا، يقول: «الناس في زماننا على ست طبقات: أسد، وذئب، وثعلب، وكلب، وخنزير، وشاة: فأما الأسد فملوك الدنيا يحب كل واحد منهم أن يغلب ولا يُغلب، وأما الذئب فتجاركم يذمون إذا اشتروا ويمدحون إذا باعوا، وأما الثعلب فهؤلاء الذين يأكلون بأديانهم ولا يكون في قلوبهم ما يصفون بألسنتهم، وأما الكلب يهر على الناس بلسانه ويكرمه الناس من شر لسانه، وأما الخنزير فهؤلاء المخنثون وأشباههم لا يدعون إلى فاحشة إلا أجابوا، وأما الشاة فالمؤمنون، الذين تجز شعورهم وتؤكل لحومهم وتكسر عظمهم، فكيف تصنع الشاة بين أسد وذئب وثعلب وكلب وخنزير؟!».
وإن كان الشيء بالشيء يذكر فإنّ زين العابدين قد ربط بين الحُكم والغلبة وهو ممن عاصر القرنين الأول والثاني قبل ابن خلدون بقرون، مما يعني أنّ أصل الفكرة أقدم حتى من ابن سينا وإخوان الصفا خلافا لما ظنّ محمود إسماعيل ناقدا ابن خلدون، وبأنّها كانت فكرة تجري مجرى المعلوم من السياسة بالضرورة.
المؤمن شاة وليس ذبيحة، وليس حثالة إمبريالية وليس طاغية، إنما هو ضحية هذا التّحيوُن البشري، هو ناشر الخير متعال على ضعف الخلق ولا يزحف على بطنه كالثعابين ولا يتلوّى كالثعالب ولا كالذئاب يقولون ما لا يفعلون ويحولون الدنيا إلى سوق للمتاجرة بالإنسان والمبادئ والمفاهيم، هذا هو الدين الذي ينتهي إلى الأنسنة وليس دين الثعالب والذئاب، هو الدين الذي يصنع السلام، سلام الفرسان لا سلام العبيد والانهزاميين، دين يقطع مع الانتهازية والعبثية ويكشف عن الجوهر الذي كان به الإنسان ووجب أيضا أن يكون به الإنسان إنساناً.

أترك تعليقاً

التعليقات