كيف نتخلص من ثقافة التوابين؟
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
قبل أن ينتهي الحدث، وقبل أن يتحول إلى مجرد ذكرى، تعالوا لنحمل روح نصر الله، وهي بلا شك روحية الحسين. وما دام الحسين وسيد الحسينيين روحاً واحدة، فقد وجب علينا أن ننصر نصر الله، نصرة للحسين، ونصرة الحسين لها زمانيتها، وهي تتصرّف في التاريخ بحساب القضايا، فإذا خرجت عن زمانيتها كانت موقفاً استدراكيّاً لا أثر له في التاريخ.
نحن بكل هذا العويل ما زلنا في طور التّوّابين؛ طور من هالهم الموقف بعد أن فقد شرط زمانيته، من رأى حفيد النبيّ يُنحر ثم كأنّ على رؤوسهم الطّير! قصّة الخذلان. حينما يحيط الخذلان بالفرسان يُصابون بخيبة أمل، ويصبح الرحيل أولى. ثار الحسين على الظلم؛ ولكن خاب ظنّه، فهو مظلوم مرّتين.
ماذا كان سيفعل مع قوم كانوا يتفرّجون على مذبحة أبنائه الواحد تلو الآخر، وبقي وحيداً؟!
حين تتجرد الواقعة من زمانيتها يكثر العويل؛ ولكن ماذا حين تكون في زمانيتها؟!
كلّ شيء في زمانيته مُلحّ، وحين يفقد ذلك الشّرط يصبح حكاية، فمن خذل الحسين حتى لو مات بعده ألف ميتة، لن يكون إلاّ من قبيل التّوّابين.
وللأسف ما زلنا نعيش وضعية التّوّابين ولم ندخل في عمق القضية.
تتردّى الذكرى، وتختزل في قال وقيل، ويضمحلّ المحتوى، وروح الثورة الحسينية تتآكلها عوامل التعرية؛ لأنّ ثقافة التوّابين عاطفية انفعالية، وليست برنامجاً ذكيّاً وحدساً للحدث في آنيته.
حين يفقد الحدث الحسيني روحه وفلسفته يصبح انتفاضة توّابية موسمية، وحطاماً تاريخياً يتكرّر من دون روح متجددة، ومن دون فكر مبتكر؛ إذ يُنتج العوام انفعالات توّابية حول الحسين، من باب رجاء المطلوبية؛ لكنّ النخب تتبرّم، فإمّا تعاقر بعضاً مما يبتكره الجمهور، وإمّا يهرب من مسؤوليته التاريخية كالسّامريّ. ثم ماذا أنتجت النخب من ثقافة حول الحسين ما عدا ما كان من الشعر والمسرح والأناشيد، وهو في حقّ الحسين قليل لو قيس بعدد السنين والكتاب؟!
مازلنا لم نتجاوز روح التوّابين إلى روح الحدث الكربلائي بشرط زمانيته، في طراوة الحدث، في عمق فلسفته. لكن ما هي هذه الرّوح؟
إن كنت تظنّ أنّ الروح الحسينية ستحملها الانفعالات التوّابية فأنت مخطئ، مخطئ لا محالة؛ لأنّ الموقف له زمانيته كالصلاة، وإذا خرج الوقت كان قضاء، فهل قضى التوّابون واجبهم الحسيني؟
إن تلك الفروسية التي تحضر بعد أن تضع المعركة أوزارها، تأتي استدراكاً وبحسابات حمقاء. قُتل الحسين وانتهى الحدث، وما تبقّى هو روح الحدث المتجددة عند كل منعطف ينبري فيه الظلم ويطغى فيه الإسفاف. الفرسان لا يتأخرون، لا يخذلون، لا يتلكّؤون.
كن حسينيّاً ولا تتلوَّ. فالحسين كان فارساً قاوم التّفاهة والظلم، ثار في وجه الأنذال، أطاح بالقردة من على منبر جدّه، خرج مناضلاً، طالباً للحق والإصلاح، لا أشراً ولا بطراً، نقيّاً واضحاً كصبح بالغ البلج.
ليس في انفعالية التوّابين معيار تاريخي للنهوض بروح الحدث الحسيني؛ ولكن يمكن أن تمنحك الروح معياراً بألا تخذل الحقّ حيثما رأيته. لا تتردّد أن يكون لك حدس حسيني يرمي ببصره أقصى القوم ولا يزحف بلا دستور في متاهة الزّمن الملتبس. الحسين ذكاء وقّاد. الحسين فارس لا يتلوّى. نبيه لا تهجم عليه اللّوابس. كان خروجه حدثاً تاريخياً فيه المصلحة، كل المصلحة بخلاف ما قال الحرّاني والنّاصبي، قالوا ما يشبه القول بأنها مغامرة. لقد فعل الحسين شيئاً في التاريخ أساء المؤرخ قراءته. أما ابن خلدون فقد ترك الكثير من البياض؛ لأنّ ثورة الحسين هشّمت نظرية الشوكة والعصبية، ومنحت للقوة معنى العلاقة والرأسمال الرمزي. لم يكن الحسين يريد تغيير ما لم يكن بالإمكان تغييره بالقول ولا بالشهادة؛ ولكنه أنقذ التاريخ، وخرّب الطرق السيارة أمام الزّيف والتحريفية. لقد أربك العربة، ووضع العصا في عجلة الشيطان، ومنح التاريخ فرصة البحث عن الرُّشد.
هنا روح الحدث الحسيني. هنا النباهة. هنا الحدس. هنا وجب أن نقف. ما أضعفنا! ولكننا نعاند بالخطأ، ففي كل ذكرى وجب أن نتعلّم المعنى الحقيقي لقيم الفرسان. لسنا هنا أمام فيلم هندي، بل نحن أمام فارس أنجبته الفحولة من العرب، ليس من طينة الحُطام المتبقّي من التحريفية، ولا من القراد الذي ينحدر من الوعي الدّيني الأجرب. الحسين يمحق كل شمر وداعش، كل تفاهة وظلامية، ثورة فارس لا تبلى، والأهم، والأهم، والأهم: قيم الفرسان، الرجولة السياسية والدينية والأيديولوجية، لن تنفعك أي فكرة، حتى ذكرى الحسين، إن افتقدت قيم الفروسية.
ففي كلّ ذكرى وجب اكتشاف عبرة جديدة، ومعنى للفروسية جديد.
إن ظلّ دمعك ووعيك توّابياً فما فعلت شيئاً. ثورة الحسين ثورة فرسان لا تتلاشى في التاريخ، بينما انفعال التوّابين يتلاشى في الزمن حتى يصبح نفاقاً كرونولوجياً.

أترك تعليقاً

التعليقات