كي تستقيم لنا الصورة
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
«الناس أعداءٌ لما يجهلون». هكذا قيل. وأعظم ما يمكنه دفعهم لرجمك بالحجارة؛ هو: اقترابك من أي جزئية عقائدية، أو قضية فكرية أو اجتماعية أو سياسية، أو حادثة تاريخية ما، قد جرت مجرى دمائهم، وتشربوها مع حليب الأمهات، وشاب عليها أولهم، وشب عليها الأخير من ذريتهم، حتى غدت مسلمات قطعية، وصار الإيمان بها جزءا من التعبير عن الانتماء لهذا الدين، والالتزام بكل مقوماته. لذلك فالمساس بها كفر يستوجب القتل أو النفي أو الإسقاط الاجتماعي على أقل تقدير!
من هنا نعرف لماذا يجد المرء كثيرا من الباحثين يؤثرون السلامة دائماً في ما يقدمونه من أبحاث ودراسات، إذ لا يخرجون عما هو متعارف عليه، ولا يخالفون المشهور. وأما إذا فكر أحدهم بنيل الشهرة والتميز والفرادة، فعليه القيام بتقديم نفسه كمفكر مادي، ملحد، كي يصبح تقدميا لدى طواحين الهواء، أو تقديم نفسه كمفكر أصولي سلفوي متمسك بالقديم، ومؤمن بأنه قد بلغ كل شيءٍ علماً، وعليه فإن كل علم أو فكرة أو قضية جاءت من خارج تراثه وتاريخه ما هي إلا شر وفساد وباطل!
لكن هناك مَن لا يريد سوى الحقيقة، ويشعر أن على عاتقه مسؤولية تجاه دينه ومجتمعه وأمته، وهذا بالطبع لن يختار أياً من الطريقين السالف ذكرهما، وإنما سيسلك طريقا ثالثا، وهو صراط الله. هذا بالضبط ما وجدناه في كتاب (الرحمن.. اللغز الأكبر) لنشوان محسن دماج، الذي يبين لنا هنا وعطفاً على ما سبق:
أن الهجرة إلى الحبشة ما هي إلا حادثة اخترعها الرواة، وقضية اختلقها النفوذ الثالوثي الحاكم بعد زمن النبوة. فكل مَن عدوهم مهاجرين كانوا تجاراً، وأما تواجدهم مجتمعين أو متفرقين بالحبشة كان بغرض تجاري محض، والدليل على ذلك ما صاحب هذه الحادثة من قلق وارتباك لدى رواتها، إذ يصبح معظم مَن قيل لنا: إنه هاجر للحبشة حاضرين في مكة والمدينة وكل مواقع ومعارك النبي مع الشرك. وقد حاولوا ردم هذه الفجوة فما استطاعوا، وما ازداد الأمر إلا غموضاً والتباساً.
قد يقول قائل: إذا كانت هذه الحادثة مجرد قصة مخترعة، وكان هؤلاء عبارة عن تجار؛ فماذا ستقولون في جعفر بن أبي طالب، صاحب تلك المواقف الجليلة في حضرة نجاشي الحبشة؟ أيعقل أن الناقمين على الرسالة المحمدية، يقدمونه بمثل هذه الصورة؟
الجواب: نعم. فلا يغرنك تلك الخطبة الرنانة التي نسبوها إليه زوراً، فقد جيء بها للتغطية على أشياء لا تعد ولا تحصى، أقلها التغطية على مهمة جعفر الأساسية، وهي التجارة، لمد الدعوة المحمدية بما تحتاجه من مال، وتعزيز استقلالية صاحبها عن الآخرين، وجعلها حرة أمام أصحاب الثروة، وغير قابلة للتطويع من قبلهم.
وهذا ما يفسر قول النبي صلوات الله عليه وآله، عند عودة جعفر: «لا أدري بأيهما أفرح: بفتح خيبر أم بعودة جعفر»، ولا تفسير لجعل كلا الحدثين سواء، سوى ما أسند لجعفر من مهمة جليلة، ترقى من حيث أهميتها إلى منزلة فتح خيبر.
أما لماذا جعفر؟ فلأنه ابن الأسرة الطالبية المضحية المؤمنة التي قدمت كل شيء في سبيل الدعوة، ونالها من حصار قريش ما لم ينله هاشمي قط، فقد اقتصر حصار الشعب عليها دون سواها من بني هاشم.
وبهذا تستقيم لديك صورة النبي، فلم يعد بنظرك ذلك المحتاج لفلان وعلان حتى في ما يدفعه للدليل الذي يدله على طريق المدينة إن صح وجود هذا الدليل حين أخرجه قومه، ولا يعود الإسلام مدينا بالفضل لهؤلاء التجار، الذين اختلقوا الهجرة إلى الحبشة، وكثيراتٍ أمثالها، ليشرعنوا تولي فلان وعلان للحكم لدولة الإسلام بعد التحاق النبي بالرفيق الأعلى، والتغطية على كل ما قد ارتكبوه من مفاسد، وما اقترفوه من مظالم، واجترأوا عليه من مخالفة لأمر الله ورسوله.

أترك تعليقاً

التعليقات