خيبات الوهم الأوروبي
 

غالب قنديل

غالب قنديل / #لا_ميديا -

يعيش العديد من المثقفين والإعلاميين في منطقتنا حالة من الاستلاب الفكري يمكن اختصارها بمتلازمة الوهم الأوروبي وهم يرددون خرافة افتراضية عن تمايز في المصالح والسلوكيات بين الدول الأوروبية والإمبراطورية الأمريكية، ويرطن بعضهم بالكلام عن بديل أوروبي، ويستعينون ببعض المظاهر والمواقف في تخديم هذا الوهم وترسيخه، بينما تبدد بخار المجد الديغولي، وهو التعبير اليتيم عن نزعة التمايز الأوروبي في زمن الحرب الباردة مع تبلورالنخب الأوروبية الحاكمة التي تشكلت في حضن بيوت المال والمصارف وأجهزة الاستخبارات الأمريكية، والمثال النموذجي الحاضر هو الرئيس مانويل ماكرون، القادم إلى الإليزيه من غولدمان ساكس.
أولاً: مع انطلاق الغزوة الاستعمارية الصهيونية لمنطقة الشرق في مطلع الألفية تمكنت الإمبراطورية الأمريكية من إخضاع الموقف الأوروبي وإلغاء التمايزات الشكلية التي سعت إليها فرنسا وألمانيا بتشجيع روسي اتجاه قرار غزو العراق، وعندها قررت إدارة دبليو بوش إلحاق الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك بصورة مذلة للقرار الذي عارضه بحافز المصالح التجارية السابقة مع بغداد، وكان ذلك بعدما احتلت الولايات المتحدة أفغانستان بمشاركة أوروبية كاملة من خلال قوات الحلف الأطلسي وحيث يتواجد الشركاء الأوروبيون بإمرة القيادة الأمريكية في أفغانستان منذ عشرين عاما بكل انضباط وطاعة.
طيلة العقدين الماضيين كانت بريطانيا وألمانيا وفرنسا وسائر دول الاتحاد الأوروبي شريكة في توفير التغطية السياسية والدعم المخابراتي والإعلامي الواسع في سائر الخطط الأمريكية المتعلقة بالعالم الثالث، وهي شريكة في جرائم قوات الاحتلال الأمريكية والنهب اللصوصي الأمريكي لثروات العراق. وقد ارتضت الحكومات والشركات الأوروبية ما تركه لها السيد الأمريكي من فتات وانضبطت بالوظيفة التي تقررها لها واشنطن، كحال وحداتها البرية والبحرية المشاركة في اليونيفيل المعزز منذ نهاية حرب تموز أو في قوات الأندوف على تخوم الجولان، وحيث كان انكفاؤها لصالح إرهابيي القاعدة في غمارالعدوان على سورية. 
ثانياً: يمارس الاتحاد الأوروبي -طائعاً مختاراً- دور الملحق الوظيفي في الاستراتيجيات الاستعمارية الأمريكية في البلاد العربية. وهذا ما أظهرته ثورات الربيع، ولاسيما الحرب الاستعمارية على سورية، حيث كانت خيوط التشغيل الاستخباراتي لواجهات تلك الحرب بريطانية وألمانية وفرنسية وشديدة الانضباط بالأوامر الأمريكية.
 كما يتواصل من سنوات عمل المعاهد الأوروبية وآلة التشغيل المخابراتي على أعمال التجنيد والتدريب لأفواج من ناشطي "نشر الديمقراطية" على تكوين جيوش الثورات الملونة في المنطقة العربية، ولاسيما في لبنان والعراق وسورية وكذلك في إيران، وهي تعمل في خدمة الخطط والمشاريع الأمريكية لضرب قوى التحرر والمقاومة. أما في فلسطين فغايتها الترويج لفكرة التطبيع مع الاحتلال، ولوهم تحسين شروط العيش تحت الاحتلال، وهي تؤدي وظيفة التحريض ضد خيار المقاومة. وتنحصر المبادرات الأوربية الجاري تضخيمها دعائيا في رفض استيراد منتجات المستعمرات الصهيونية داخل الضفة الغربية المحتلة ومقاطعتها وتمويل صناديق المساعدة الشحيحة.
ثالثاً: كانت حكومات أوروبا وما تزال شريكاً مخابراتياً وعسكرياً كاملاً بقيادة الولايات المتحدة في جميع عمليات العدوان الصهيوني وإدارة الحروب الجاسوسية والغزوات العسكرية ضد محور المقاومة، وهو ما تظهره وقائع ويوميات حرب تموز وحروب غزة وبعض خفايا جرائم اغتيال قادة المقاومة في المنطقة وسائر تفاصيل المعركة بين محور المقاومة وعصابات الإرهاب التكفيري في العراق وسورية ولبنان وإيران وحرب اليمن. وغالباً ما يكلف المستعمر الأمريكي أتباعه الأوروبيين بطرق أبواب التفاوض بعد فشل غزواته ويترك لهم هامشا سياسيا محسوبا لأداء أدوارهم المطلوبة في خدمة قراره المطاع، ومن هنا تتكفل جوقة الترويج التابعة ببث الأوهام الخادعة والكاذبة.
رابعاً: منذ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني اختبرت روسيا والصين وإيران فرصا متلاحقة لكسب أوروبا، وقدمت لها حوافز وفرصا اقتصادية وتجارية ضخمة، لكن آخر فصول التصعيد الأوروبي ضد إيران والتنصل من الالتزامات الأوروبية المتعلقة بالاتفاق بعد مماطلة طويلة وتحايل مفضوح جزمت بحقيقة الخضوع الأوروبي للمشيئة الأمريكية الطاغية.
إن الوهم الأوروبي تكشف عبر عقود عن خدعة بصرية مدبرة حاكها العقل الاستعماري الأمريكي الغربي للتلاعب بالوعي في البلاد العربية والعالم الثالث، ولحماية شرفة خاصة لتيسير الحروب والخطط والمشاريع التي تخدم الهيمنة الأمريكية، ولتجنيد الواجهات والجواسيس، كما تفيد الحقائق الصارخة. ومن الخطأ الجسيم منهجيا تضخيم التعارضات الجزئية داخل منظومة الهيمنة الاستعمارية التي تقودها الولايات المتحدة وتحويلها إلى أوهام متجددة تستدرج مواقف وحسابات خاطئة وتورث خيبات لا تحصى.


* كاتب لبناني.

أترك تعليقاً

التعليقات