صلف يعلو.. وتفكك يتعمّق.. وبنية تهتز من الداخل.. كيان الاحتلال الصهيوني بين الغرور والتصدّع
- عثمان الحكيمي الأربعاء , 10 ديـسـمـبـر , 2025 الساعة 12:08:51 AM
- 0 تعليقات

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
لطالما كتبنا أن القيادة الصهيونية تعيش ذروة غرورها؛ ففي لحظة العربدة والصلف والتبجّح القصوى، يتصرّف الكيان في المنطقة وكأنها إرثٌ خاصّ وملكٌ حصري، وهذا واقع لا ينكره إلا مكابر أو من آثر العمى على البصيرة. ومن هذا المنطلق، كنا نؤكد أن هذا الصلف ليس قدرًا محتومًا، وأن ثمة حاجة ماسّة إلى فعل استثنائي يضرب في صميم هذا الغرور ليكسر شوكته ويعيده إلى حجمه الطبيعي.
وبالتوازي مع ما سبق، يكشف علم الاجتماع السياسي، وتؤكد الخبرات التاريخية، وتشير الأدبيات التحليلية، أن الأنظمة التي تبلغ ذروة صلفها تكون في الحقيقة على حافة الانكشاف، لأن فائض القوة الذي تتباهى به ليس سوى قشرة صلبة إذا ما أخفت تحتها هشاشة بنيوية عميقة. وتُظهر دراسات علم السلوك السياسي أن لحظات الغرور المفرط ليست دليل قوة، بل علامة إنذار مبكر على منظومة تترنّح من الداخل، حيث تتراكم مؤشرات الإنهاك وتتكاثر الشقوق التي لا يراها إلا من يقرأ التفاصيل بعين فاحصة.
الكيان من الداخل.. أزمة تتفجّر
هناك، في تلك الهوامش، تتغذى أزمة صامتة داخل المؤسسة العسكرية والأمنية لا يلتقطها إلا من يقرأ ما بين السطور. إنه تآكل داخلي يتفاعل في الخفاء، وتكشفه خريطة من الإشارات المتقاطعة: تسرّب الكفاءات، احتياط مُثقل، قيادة منشطرة بين السياسة والميدان، شهادات الجنرالات، انحسار الاستعداد للخدمة، ومجتمع يفقد ثقته بالهيكل الذي كان يجمعه. إنها أزمة خفية وهشاشة داخلية عميقة، لا تدركها الأعين السطحية المنشغلة بالاستعراض، بل العقول التي تحلل وتقرأ ما وراء الصورة.
إن الغرور الذي تتظاهر به القيادة الصهيونية اليوم ليس قوة، بل قناع سميك يخفي أزمة تتآكل في أحشاء المؤسسة الأمنية. منذ 2023، وبشكل فاضح بعد “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر، تتكاثر الشقوق، وتتقاطع إشارات التآكل البنيوي كأنها صفارات إنذار، لكن الجهات التي يفترض أن تستفيد منها تبدو كأنها لا تريد سماعها أصلًا؛ ما جرى في 7 أكتوبر تجاوز كل التوقعات؛ لم تكن الضربة عادية بل إن الصدأ بدأ يأكل الروح التي كانت وقود آلة الحرب. أصوات التحذير لم تعد تأتي من الخارج، بل من داخل الكيان نفسه؛ جنرالات مثل إسحاق بريك يصرخون: “الجيش ينهار من الداخل”. إنها ليست معركة بالسلاح، بل حرب في عمق النفسية الصهيونية.
وفي قلب هذا المشهد، يقف جيش الاحتلال في لحظة ارتباك غير مسبوقة؛ الأزمات البنيوية تتشابك مع صفقات سياسية رخيصة، فيتحوّل جيش الاحتلال من مؤسسة تدّعي الصلابة إلى جسد تتكاثر فيه الشروخ. التقارير العبرية توكد ذلك، بينما تدفع حكومة نتنياهو نحو إعفاءات للحريديم، وكأن جيش الاحتلال سلعة في سوق الائتلاف. الجنود يشعرون بأنهم يُتركون وحدهم في الميدان، فيما تُفتح أبواب الهروب لغيرهم. ما يجري ليس خلافًا تشريعيًا، بل انهيار في الثقة، وضربة لأسطورة “الجيش الذي لا يُقهر” التي بدأت تتهاوى أمام أعين أصحابها.
قيادة تهرب وأخرى تتاجر بالجنود
في قمرة القيادة، لا يبدو المشهد سوى فضيحة مكشوفة؛ فالقادة الذين كانوا يتباهون بأنهم “عقل الجيش” يهربون اليوم واحدًا تلو الآخر، وكأنهم لم يكونوا مهندسي الوهم الذي انهار فوق رؤوسهم. استقالات قادة الاستخبارات والفرق ليست اعترافًا بالمسؤولية، بل محاولة للفرار من جثةٍ يعرفون جيدًا أنهم شاركوا في قتلها. أما الضباط الصغار، الذين تكشف هآرتس عن “تمردهم الصامت”، فهم الجيل الذي نظر إلى الأعلى فلم يجد يجد مجدًا، بل رائحة عفن تتصاعد من منظومة فقدت شرفها قبل أن تفقد قوتها. حين يرفض “جيل المستقبل” حمل “الراية”، فهذا يعني أن الراية نفسها أصبحت ملطخة، وأن القيادة تحوّلت من رمز إلى وصمة.
ثم يأتي مشروع إعفاء “الحريديم” ليكشف القبح كله دفعة واحدة. فبينما مازالت العديد من الجبهات مفتوحه وبدون مصير، يمدّ نتنياهو يده ليقدّم جيش الاحتلال قربانًا على مذبح الائتلاف، كأن المؤسسة العسكرية مجرد صفقة تُشترى وتُباع حسب مايقول الصهيانية. وهنا القانون لا ينسف مبدأ “الخدمة المشتركة” فحسب، بل يعلن بوضوح أن الجنود ليسوا شركاء في “الدفاع”، بل وقود رخيص لمعادلات سياسية قذرة. وحدات الاحتياط تُستنزف حتى العظم، بينما تُفتح أبواب الهروب لفئة كاملة محمية بغطاء ديني وسياسي. وهكذا يتعرّى الطرفان: قيادة عسكرية تهرب، وقيادة سياسية تبيع جيش الاحتلال في سوق المصالح. وما بينهما، جنود يُتركون وحدهم في الميدان، يدفعون ثمن منظومة تتآكل من الداخل.
حين يختنق جيش الاحتلال بصمته الداخلي
لم يعد الانتحار في صفوف جيش الاحتلال حادثًا فرديًا أو خللًا نفسيًا عابرًا؛ بل تحوّل إلى مؤشر بنيوي على انهيار الروح العسكرية. فبحسب بيانات المصادر العبرية نفسها، سجّل الاحتلال 38 حالة انتحار خلال عامي 2023 و2024، وهو أعلى رقم منذ 13 عامًا. الأخطر أن أكثر من نصف المنتحرين من قوات الاحتياط، أولئك الذين استُدعوا إلى حرب طويلة ثم تُركوا يواجهون صدماتها وحدهم. آلاف الجنود، وفق التقارير العبرية، انسحبوا من الأدوار القتالية بسبب الضغط النفسي، فيما اضطرت المؤسسة العسكرية إلى استدعاء أكثر من 800 ضابط صحة نفسية لمعالجة موجة اضطرابات غير مسبوقة. هذه الأرقام ليست تفاصيل تقنية، بل صفعة تكشف أن جيش الاحتلال الذي كان يتفاخر بـ”المناعة النفسية” صار عاجزًا عن حماية جنوده من أنفسهم. إنها لحظة انهيار داخلي، حيث يتحول السلاح من أداة قتال إلى عبء يثقل صدر الجندي حتى يختار الخلاص بيده.
غزة.. المِطرقة التي هشّمت جسد جيش الاحتلال
الحرب على غزة لم تترك في جيش الاحتلال مجرد قتلى، بل خلّفت وراءها جيشًا مثقوبًا بجراح لا تندمل. فوفق الأرقام الرسمية، قُتل 891 جنديًا خلال عامي 2023 و2024، بينما أصيب أكثر من 5,569 جنديًا بجروح متفاوتة، بينهم مئات بإعاقات دائمة وبتر أطراف. هذه الإصابات ليست مجرد أرقام؛ إنها جيل كامل من الجنود يعود إلى المجتمع محطّم الجسد والنفس، يحتاج إلى سنوات من العلاج وإعادة التأهيل. التقارير تشير إلى أن وحدات كاملة فقدت قدرتها القتالية، وأن جيش الاحتلال يواجه أزمة في تعويض المصابين، خصوصًا مع تراجع الرغبة في الخدمة. غزة لم تكن معركة، بل طاحونة بشرية ابتلعت نخبة الوحدات القتالية، وتركت خلفها جيش الاحتلال يجرّ قدميه على عكّازات. ومع كل جندي يفقد طرفًا أو قدرة، تتآكل صورة “جيش الاحتلال الذي لا يُقهر”، وتظهر الحقيقة العارية: جيش الاحتلال يخرج من الحرب وهو ينزف من كل مفصل.
«جيش» بلا ضباط وجبهات بلا جنود
في قلب الأزمة، يقف جيش الاحتلال أمام انهيار غير مسبوق في منظومته البشرية. فبحسب تقارير صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” العبرية، يعاني جيش الاحتلال من عجز يفوق 12,000 جندي، ونقص حاد في الضباط يصل إلى 1,300 ضابط صغير و300 ضابط برتبة رائد. أكثر من 600 ضابط طلبوا التقاعد المبكر، فيما تراجعت رغبة الضباط في البقاء من 83٪ إلى 63٪ خلال سنوات قليلة. وحدات الاحتياط مرهقة، والجنود النظاميون يعملون وفق دورات خدمة قاسية: 17 يومًا في الجبهة مقابل 3 أيام إجازة فقط.
ختامًا، مع كل يوم يمرّ، نرجو أن تتسع الفجوة، وأن تكبر حتى تتحوّل إلى شقّ يبتلع ما تبقّى من قدرة جيش الاحتلال على الوقوف. نرجو أن يستمر هذا التآكل، وأن يتعمّق حتى يصل الاحتلال إلى لحظة يدرك فيها أن جيشه يدخل مرحلة استنزاف طويلة، لا يملك فيها الرجال ولا الروح ولا القدرة على تحمّل حرب تمتدّ أكثر مما يحتمل. فالمستقبل الذي ينتظره ليس صراعًا جديدًا، بل انهيار بطيء يتقدّم نحوه بثبات، حتى يسقط الهيكل من داخله قبل أن تلمسه يدٌ من الخارج.










المصدر عثمان الحكيمي
زيارة جميع مقالات: عثمان الحكيمي