عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
تعيش سورية اليوم على أنقاض ورماد دولةٍ كانت ذات يومٍ قلبَ العروبةِ النابض؛ فمن شرايينها المفتوحة تدفق السلاح إلى غزة، وفي أحشائها نَمَت فصائلُ أوجعت قلب العدو الصهيوني. دولةُ البعث لم تكن مجرد جغرافيا على خريطة، آمنت بأن الحصار من أجل المبدأ هو أسمى أشكال الحرية، فدفعت ضريبة الشرف التي يبيعها اليوم وَرَثَةٌ لا يعرفون منه إلا اسمه. في عصر السيقان الراجفة والظهور المنحنية، كانت سورية البعث هي القامة التي ترفض الركوع، والمحراب الأخير الذي يُدَنِّسُهُ اليوم المتآمرون.
على هذا الإرث يقف اليوم «وَرَثَةُ الظل»؛ وجوهٌ بلا ملامح، وأسماءٌ بلا تاريخ، كأنهم دُمى خيطية خرجت لِتَوِّها من أقبية المخابرات الأمريكية و»الإسرائيلية»، بلمسةٍ إخوانيةٍ تضمن الخنوع. هؤلاء الوَرَثَةُ لا يتفاوضون، بل يقدمون فروض الطاعة على أعتاب صفقةٍ ليست كارثية فحسب، بل هي العار ذاته وقد تَجَسَّد.
فما نسمعه اليوم ليس همس الكواليس، بل هو الصخبُ الوَقِحُ لوليمةٍ تُقام على شرف «شرق أوسط جديد»؛ شرق أوسط مبتورٍ، مُفَتَّتٍ، وظيفته الوحيدة أن يكون مقبرةً للقضية الفلسطينية. ففي قلب هذه المَسْخَرَة، يُراد لدمشق، عاصمة المجد، أن تخلع ثوبها وتتحول إلى مَرْعى قذرٍ للصهاينة وعملائهم. إنها ليست صفقة، بل طقوسُ استسلامٍ علنية، ومزادٌ يُباع فيه ترابُ وَطَنٍ وسيادته لمن يدفع أكثر في سوق الخيانة الدولي.

• خرائط الخيانة.. حين تصبح الأرض أوراق قمار
في أفق سورية اليوم، تتحرك الظلال بصمتٍ أثقل من الحديد. فما يلوح في الأفق السوري يتجاوز بكثير حدود «الترتيبات الأمنية» المعلنة بين أبي محمد الجولاني، زعيم «هيئة تحرير الشام»، والكيان الصهيوني. إنها هندسة جيوسياسية صامتة، وإعادة كتابة لقواعد لعبةٍ على أرضٍ منهكة؛ حيث يبدو أن كل شيء أصبح قابلاً للمقايضة، وحيث يُطرح البقاء على كرسيٍّ تهتز أركانه ثمناً للسيادة ذاتها. فالحكاية أبعد من تفاهمات؛ إنها خرائط تُلوَّن بالأزرق والأصفر والأحمر، كأنَّ الأرض أوراق قمار تتناقلها أيادٍ غريبة فوق طاولة، مقابل أن يبقى الجولاني على الكرسي، ويستمر المسرح بالعرض وكأنّ شيئاً لم يحدث.
تبدأ القصة من أراضٍ كانت يوماً في صلب خطاب العروبة، إذ إنها اليوم تُشطب بهدوء من دفاتر المطالب المستقبلية. ليس هذا فحسب، بل إن المناطق التي تم التمدد إليها مؤخراً في عمق القنيطرة تبدو وكأنها أمر واقع جديد لن يُعاد؛ فهي مناطق مهمة. وفي الجنوب كله، يجري الحديث عن سحب كل أشكال السلاح الثقيل والمتوسط، وفرض قيود على الحركة ضمن خطوط لا تتجاوز 12 إلى 20 كيلومتراً من العاصمة دمشق؛ ليتحول الجنوب إلى حزام مكشوف تراقبه من بعيد أعينٌ خانت وباعت ونامت.
الحديث يدور عن قوائم أسماء يراجعها الكيان الصهيوني قبل السماح لأصحابها بالخدمة، وعن خرائط تُقسم الأرض بالألوان لتحديد مناطق النفوذ. وفي السويداء، تُفتح قنوات تواصل مباشر، وتُقدم «ضمانات»، وقد سبق أن وصلت أسلحة نوعية إليها، في مشروع يهدف إلى سلخ هذا الجزء من النسيج الوطني السوري، وربط ولائه بالجهة ذاتها: «إسرائيل». أما محيط دمشق، الذي يسكنه أبناء الطائفة الدرزية، فالتطمينات مُعطاة، والالتزامات وُقِّعت، لتظل المسيرات حاضرة، تهز الهواء كما فعلت في وزارات الدفاع التي قُصفت حينما حدثت تجاوزات.
لا تتوقف الطموحات عند تثبيت الأمر الواقع، بل تتجاوزه إلى رسم خطوط جديدة للمستقبل. فالحديث عن إنشاء شريط جغرافي ضيق يمتد من مرتفعات الجولان السورية المحتلة في أقصى جنوب غرب سورية، مروراً بمحافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، وصولاً إلى منطقة التنف على الحدود السورية - العراقية - الأردنية.
وفي الشمال، تُمنح قوى إقليمية (تركيا) نفوذاً، بل ويجري تحويل كل سورية إلى سوق لها، بينما تبقى منابع الثروة في شرق الفرات ملفاً شائكاً آخر. ورغم توقيع قوات «قسد» اتفاقاً مع الجولاني، تدور الأخبار بأنها بعد ما حدث في السويداء والساحل بدأت تراجع حساباتها، وتقول إن إعلان «الشرع» للدستور والهوية البصرية قد أخل بالاتفاق. لذلك، ستشتعل النار في تلك المناطق من تحت الرماد خلال الفترة القادمة.
أما الساحل فيبدو أنه سيخضع لرقابة دولية تحول موانئه إلى مجرد شواطئ مراقبة. إضافة إلى ذلك ما كشفه الجولاني عن أنه قد سبق أن قدم تنازلات لروسيا بشأن تلك المناطق حتى قبل الوصول إلى دمشق.

 • صناعة الأغلال الناعمة لـ«شرق أوسط جديد»
إن الترتيبات الجارية لا تقتصر على إعادة رسم الخرائط العسكرية والسياسية، بل تمتد لتشمل الأدوات الناعمة. فالمقترح الخاص بـ«صندوق دولي لإعادة الإعمار» تحت إشراف غربي هو أداة اقتصادية؛ إذ سيتم ربط كل تمويل بمدى الالتزام بتنفيذ بنود الصفقة، ما يحول الاقتصاد إلى أداة ضغط دائمة. على صعيد موازٍ، يُطرح المسار الدستوري كجزء من الصفقة؛ إذ من المرجح أن يخضع أي دستور جديد لمراجعة قانونية دولية لضمان توافقه مع «متطلبات السلام الإقليمي»، وهو ما يعني عملياً نزع أي شرعية قانونية عن المطالب السيادية السابقة. ويتكامل هذا مع ضرورة إعادة هيكلة المناهج التعليمية، لتجريدها من المفاهيم الوطنية التي شكلت وعي الأجيال السابقة، وتستبدل بها مفاهيم جديدة تخدم منطق «الشرق الأوسط الجديد».

• هل ستشرق الشمس أم أن القادم ليلٌ طويل؟
لا تنتهي الحكاية عند بنود الطاعة، ولا عند خرائط الألوان. فالتفاهمات ليست خياراً إرادياً، بل جاءت تحت وطأة ضغوط أمريكية مباشرة. يبقى موضوع «الجهاديين الأجانب» قنبلة مؤجلة الانفجار. فهل يستطيع «الشرع» أن يجمّد هذا الملف أو يدفنه، أم أن نيرانه ستنفجر تحت قدميه، عاجلاً لا آجلاً؟! حتى ما يُسوَّق للناس على أنه «رفع للعقوبات» لا يعدو كونه قيداً جديداً بواجهة براقة؛ فهو التزام مشروط، مراقب، يحتاج إلى موافقة خارجية عند كل خطوة. كل قرار سيكون إذناً مكتوباً من خلف البحار. هنا يتعاظم الغضب حتى بين بعض الموالين له، الذين ينظرون إليه كـ»رئيسٍ مؤقت» بلا شرعية، يوقّع ما لا يحق له التوقيع عليه.
في الداخل: التحديات أشد وقعاً من الخارج: ملف المكونات، عودة اللاجئين، السلاح المتناثر، وإعلان دستوري خالٍ من أي إشارة إلى انتخابات، كأنّ المرحلة الانتقالية كُتبت لتطول إلى ما لا نهاية. أما زياراته المكوكية فلا تبدو إلا محاولات يائسة لإضفاء مسحة شرعية دولية على تنازلات قد حُسم أمرها سلفاً.
وتبقى المشاريع المتقاطعة كعناكب فوق الجسد السوري: «ممر داود» الممتد من الجولان إلى التنف، وخط الغاز القطري، وصراع الهيمنة بين أنقرة والرياض… كلها تحوّل سورية إلى ساحة مفتوحة لمساومات عابرة للحدود.
وفي الشمال، ماذا ينتظر أنقرة؟ فـ»قسد» رقم عصيٍّ على التصفية أو التجاوز. من المؤكد أن ما يُسمى «التفاهمات الأمنية» ليس سوى بداية مرحلة جديدة، تُدار فيها سورية لا كدولة، بل كمساحة جغرافية مرسومة بخطوط الآخرين ومصالحهم.

أترك تعليقاً

التعليقات